فالمتكلم يستفسر عن تمييز شيء مشترك بينهما وهو كبر السن، ولكن أحدهما زاد في العمر على الآخر؛ ولهذا يطلب التحديد.
ويكتسب الاسم (أي) دلالته من إضافته، فالإضافة توضح في أيٍّ من معاني الاستفهام استعمل، كقولنا: (أيُّ الطلاب عندك؟) كأننا نسأل: (مَنْ من الطلاب عندك؟) ... أو (أَيَّ يوم تسافر؟) كأننا نسأل: (متى تسافر؟) وكقوله تعالى:) أيُّكم يأتيني بعرشها ((النمل 27/ 38)، أي (مَنْ منكم)؟ فأي الاستفهامية تضاف إلى المعرفة وإلى النكرة، وقد تقطع عن الإضافة نحو: (أيٌّ جاء؟) و (أيَّاً أكرمتَ؟).
فالصلة الجمالية بين أُسلوب الاستفهام الحقيقي وبين الجمال إنما تتحقق بالتفاعل الواقعي مع الصفات والأفكار على مستوى الطابع الفكري والاجتماعي والنفسي وفق منظور الموضوع الحقيقي الذي يرتبط بنوعية الطلب ووظيفته. فالمحتوى يفصح عن حقائق ومدركات تنهض بالصياغة الجمالية بوساطة الاستفهام الحقيقي، على حين تغدو صياغة بعيدة عن المباشرة في أساليب الاستفهام المجازية، وهو ما نراه فيما يأتي.
القسم الثاني: الاستفهام المجازي
أبرز البلاغيون العرب في الدراسات الأدبية والقرآنية أن أدوات الاستفهام لا تتوقف عند المعاني الأصلية التي ينتهي إليها أسلوب الاستفهام الحقيقي الذي يتطلب إجابة محددة. ولكن الاستفهام قد لا يبحث عن إجابة محددة؛ وإنما يبحث عن تصور ما للمتكلم دون أن يستفسر عن شيء؛ وبهذا يخرج أسلوب الاستفهام إلى أسلوب مجازي لا يطابق في دلالته المجازية الدلالة الحقيقية فيصبح بمعنى الخبر، لا بمعنى الإنشاء (42).
وحين يخرج الاستفهام إلى أسلوب مجازي إنّما يؤدي ظاهرة جمالية وبلاغية لا تعرف في الأسلوب الحقيقي الذي يسأل به المتكلم عن شيء معروف ومشهور، أو عن معنى يفهم من السياق؛ ويتوجه فيه المتكلم إلى نفسه قبل أن يتوجه به إلى الآخرين.
وإذا كان البلاغيون قد اختلفوا في عدد المعاني التي خرج إليها أسلوب الاستفهام فإن الأسلوب المجازي يعتمد على السلائق والذوق والسياق والقرائن التي يدور حولها الكلام ... ونرى أنه لا يحصر الأسلوب المجازي للاستفهام بمعنى أو بمعانٍ محددة؛ وإن اتجهت الدراسات البلاغية القرآنية اتجاهاً قد لا يتطابق مع الدراسات البلاغية الأخرى (43). فالتراث البلاغي حضور متفاوت في الذهن البشري، ونوع معرفي غير ثابت. ولهذا سنسوق أساليب الاستفهام المجازية المشتركة بين تلك الدراسات ثم نبيّن بعض الفوارق عند عدد من دارسي أساليب الاستفهام في القرآن الكريم، لا على سبيل التضاد بل على جهة الاستدلال للوصول إلى معرفة جمالية نوعية بأساليب البلاغة كلها ...
1 ـ التقرير:
التقرير هو الإثبات مع الوضوح؛ وكذلك هو الإثبات مع التسليم ... وهو لا يحتاج إلى جواب في الاستفهام المجازي؛ لأنه يقرر فكرة من الأفكار؛ يحمل المخاطب على الإقرار بها؛ وبمعنى آخر السؤال نفسه جواب ثابت. ويستعمل في هذا الأسلوب الفعل المنفي المسبوق ـ غالباً ـ بهمزة الاستفهام؛ وإن جاز استعمال الأدوات الأخرى ـ كقوله تعالى:) أَلَمْ يجدك يتيماً فأوى ((الضحى 93/ 6) والمعنى (وجدك) وقوله:) أَلَمْ يَجْعَل كَيْدَهم في تضليل ((الفيل 105/ 3) أي (جعل كيدهم ... ) وقوله:) ألم نشرح لك صدرك ((الانشراح 93/ 1) وقال البحتري:
أَلسْتَ أَعَمَّهمْ جوداً وأَزكا إذا ما لم يكُنْ للحَمْدِ جابِ؟
فالهمزة إذا دخلت على نفي؛ فإنه لا يراد معنى النفي بل يراد تقرير ما بعده. وهذا يختلف كثيراً عن الأسلوب الآتي في الإخبار والتحقيق، (45) كما أنه يختلف كثيراً عن الاستفهام الحقيقي الذي يحتاج إلى جواب.
2 ـ الإخبار والتحقيق:
الإخبار هو الإعلام بالشيء، ويستعمل لإثبات أمر ما؛ لذا ارتبط بالتحقيق في أسلوب الاستفهام لأنه يتجه إلى إطلاع السامع أو تثبيت خبر لديه، أو أنه يرمي إلى كليهما معاً كقوله تعالى:) ألا إنهم هُم المفسدون ولكن لا يشعرون ((البقرة 2/ 12) وقوله:) ألم نُرَبِّكَ فينا وليداً ((الشعراء 26/ 18) والمعنى (إننا قد ربيناك فينا وليداً)؛ على حين دَلَّت في الشاهد الأول على التحقق لما بعدها والتنبيه عليه (ألا إنهم ... ) (46) ويستعمل فيه ـ غالباً ـ (همزة الاستفهام) ـ كما ورد في الأمثلة السابقة ـ وكذلك يستعمل فيه (هل) كما في قوله تعالى:) هل أتى على الإنسان حِيْن من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً ((الإنسان 76/ 1)؛ والمعنى
¥