(قد أتى على الإنسان) (47). وقد تستعمل الهمزة مع لفظ (حقّ ـ حقاً) أو تستعمل مع النفي الذي يراد منه الإخبار والتحقيق؛ فهذا عَبْدُ يغوثَ يستعملها مع (حقاً) في قوله:
أَحقّاً عبادَ اللهِ أَنْ لستُ سامعاً نَشيدَ الرِّعَاءِ المُعْزبين المَتَاليا
ومن استعمالها مع النفي قوله تعالى:) أَليسَ ذلك بقادرٍ على أن يُحييَ الموتى ((سورة القيامة 75/ 40).
ولما كانت لها هذه الرتبة من التحقيق مع النفي ندر أن تقع جملة بعدها إلا صُدِّرَتْ بما يتلقى به القسم على نحو ما؛ كقول حاتم الطائي:
أَمَا والذي لا يعلمُ الغيبَ غيرُهُ ويُحيي العظامَ البِيضَ وهيَ رَميمُ؟
ومثله قول صخر الهذلي:
أَمَا والذي أَبكى وأَضْحَكَ والذي أَماتَ وأَحيا والذي أَمْرُهُ الأَمْرُ؟
فالمعنى الذي يرمي إليه المتكلم في الاستعمال المجازي لأسلوب الاستفهام يتجه إلى معنى المعنى وفق ما يتطلبه السياق، لا وفق ما تبنى عليه الكلمات في التركيب النحوي، وبذلك يتركز مفهوم الجميل ...
3 ـ التسوية:
اختص أسلوب التسوية باستعمال (الهمزة) مع (أم) المعادلة؛ لأن الهمزة تستعمل للتسوية في الدلالة بين ما قبل (أم) وما بعدها، والجملة بعد الهمزة يصح حلول المصدر محلها ... وتوهم غير باحث أنها تستعمل فقط مع (سواء) كما في قوله تعالى:) سواء عليهم أَأَنْذَرْتَهم أم لم تُنذرهم لا يُؤمنون ((البقرة 2/ 6). ودليل رأينا أنها تستعمل مع (ما أدري) ونحوه، قول الفرزدق:
وواللهِ ما أدري، أجُبْنٌ بجَنْدَلٍ عن العَوْدِ أم أعيت عليه مضاربُهْ؟
ونستدل على ذلك أيضاً بقوله تعالى:) وإن أَدْري أَقريبٌ أَمْ بعيدٌ ما توعدون ((الأنبياء 21/ 109). وتستعمل كذلك مع تركيب (ما أبالي) ونحوه؛ كقول المتنبي:
ولسْتُ أُبالي بعْدَ إدراكيَ العُلَى أَكان تُراثاً ما تناولتُ أَمْ كَسْبَا؟
ومع (ليت شعري، وليت علمي) ونحوهما (48)، على اعتبار أن الصياغة تتصل بصور من التوازن والتنسيق بنسبة جمالية تؤكد الوعي الجمالي بالشكل والمضمون؛ ومنه قول الفرزدق:
أَلا ليتَ شعري ما أرادت مُجَاشِعٌ إلى الغَيْطِ أَمْ ماذا يقول أَميرُها؟
وقد يُمْزَج أسلوب التسوية بالتهكم والهجاء كما في قول حسان بن ثابت:
وما أُبالي أَنَبَّ بالحَزْنِ تَيْسٌ أمْ لحَاني بظهرِ غَيْبٍ لئيمُ
فجمالية هذا الأسلوب إنما تنبثق من شبكة العلاقات المعنوية بين الكلمات، وهي تؤسس سياقات ومقاصد يجتهد المتكلم في إيصالها إلى المخاطب دون حاجة إلى ردٍّ أو جواب.
4 ـ العَرْضُ والحضّ:
هذان أسلوبان متماثلان؛ وإن زاد أحدهما على الآخر في المعنى؛ فالعَرْضُ: طلب الشيء بِلين، والحَضُّ: طلبه بقوة مرة بعد مرة؛ ويستعمل فيهما الهمزة مع (لا) فتصبحان (أَلاَ) وهما كالاسم الواحد؛ والطلب لا يراد منه الإجابة (بنَعم) أو (لا) وتختص بالفعل، ومن العرض قوله تعالى:) ألا تحبون أن يغفر الله لكم ((النور 24/ 22)؛ أما قول الشاعر عمرو بن قَعَّاس المرادي فعلى تقدير فعل محذوف:
أَلا رَجلاً جزاهُ اللهُ خَيراً يَدُلُّ على مُحَصِّلَةٍ تُبيتُ؟
أي "أَلاَ تُرُونني رجلاً هذه صفته، فحذف الفعل مدلولاً عليه بالمعنى"، وقيل قول آخر (49).
ومن الحض قوله تعالى:) أَلا تقاتلون قوماً نَكَثُوا أَيمانَهم ((التوبة 9/ 13). فهو يحثهم على القتال؛ أي (قاتلوهم)؛ وكذلك قوله تعالى:) أَنِ ائتِ القومَ الظالمين* قومَ فرعون؛ أَلاَ يتقون ((الشعراء 26/ 10 ـ 11)؛ أي (ائتهم وأمرهم بالتقوى).
إن فنيات التعبير وأشكاله الجمالية ماثلة في جوهر استعمال اللفظ وفق نظام مثير ودقيق ومتناسب النسق مع السياق دون أن يتخلى عن بنيته، ولو تعدد، كاتحاد همزة الاستفهام بـ (لا) (50).
5 ـ الإرشاد والتوجيه والتذكير:
هذه معانٍ ثلاثة تجتمع في سياق بلاغي واحد في أسلوب الاستفهام المجازي. فهنا يراد بالاستفهام الإرشاد والتوجيه إلى أمر غير الذي تعوّده المتكلم أو السامع كما في قوله تعالى:) قالوا: أتجعل فيها مَنْ يُفْسِد فيها ويَسْفِك الدماء ((البقرة 2/ 30). فالملائكة رأوا الجن يسفكون الدماء في الأرض ويفسدون فيها؛ لهذا خاطبوا الله ـ سبحانه ـ لما قرر أن يجعل بني آدم فيها؛ فتوجهوا إليه بالسؤال ليرشدهم عن أمر بني آدم؛ أم أن شأنهم سيكون شأن الجن؛ فكان قول الله سبحانه وتعالى:) قال: إني أعلم ما لا تعلمون ((البقرة 2/ 30). ولما كان سؤالهم سؤال توجيه
¥