فالأسلوب ـ هنا ـ أضفى على اللغة قدرة على التأثير فيما عبَّر عنه من المشاعر والأحاسيس. وكذلك خرج أسلوب الاستفهام المجازي في القرآن إلى معنى التعظيم والتفخيم في قوله تعالى:) يسألونك عن الساعة أيّان مُرْساها ((النازعات 79/ 42) وفي قوله:) وما أدراك ما يوم الدين* ثم ما أدراك ما يوم الدين ((الانفطار 82/ 17 ـ 18). وتؤكد الآية التاسعة عشرة من (الانفطار) معنى الاستعظام) يوم لا تملك نفسٌ لنفسٍ شيئاً؛ والأَمْرُ يومئذٍ لله (. وكذلك نرى التفخيم في عدد غير قليل من آيات القرآن الكريم (59)؛ والتي نحس بها قدسية الجوهر في منابعه الكونية التي تشعرنا بالوظيفة الإنسانية لإعادة صياغة الحياة، فضلاً عن التعظيم المؤسس في البنية اللغوية والبلاغية ... ونجد نحواً من ذلك في قول ابن هانئ الأندلسي:
مَنْ منكم الملِكُ المطاعُ كأنَّه تحتَ السَّوابغِ تُبَّعٌ في حِمْيرُ؟
فهو يخاطب الجنود مستفسراً ومستعظماً: من منكم الملك الذي له من القوة والسلطان ما لممدوحه؛ وكأنه في ساحة المعركة ملك من ملوك اليمن (قبيلة حمير). فامتلاك الشاعر للغته الذاتية تجسد في حسه المدرك طريقة توزيعه للكلمات في المواقع التي تشعرنا بوظيفتها البلاغية المتجهة إلى التعظيم والإجلال.
13 ـ التهويل:
التهويل في اللغة: هو التخويف الشديد والتفزيع مع تعظيم شأن المُهَوَّلِ منه؛ وتعجيبه، ومثله التهاويل. ولعل هذا الأسلوب الاستفهامي المجازي من أعظم أنماط التصوير الإيحائي في القرآن الكريم سواء ورد في مشهد يوم القيامة أم في غيره (60)، وعليه قوله تعالى:) القارعةُ* ما القارعة*، وما أدراك ما القارعة ((القارعة 101/ 1 ـ 3)، وقوله:) هل أتاك حَديثُ الغاشية* وجوه يومئذ خاشعة ((الغاشية 88/ 1 ـ 2).
ويعدُّ استعمال أداة الاستفهام (ما) المبهمة في الدلالة من أعظم الاستعمالات في هذا المقام؛ وهي ذات إيحاء بديع في التأثير كما في قوله تعالى:) وما أدراك ما يوم الفصل؟ ((المرسلات 77/ 14). فسياق النص القرآني يبرز عظمة التصوير الذي يجسد الخوف في نفوس المكذبين بيوم القيامة كما تدل عليه الآيات الآتية) إنَّما تُوعَدُون لواقع* فإذا النجوم طُمست* وإذا السماء فُرِجَتْ* وإذا الجبال نُسِفت* وإذا الرُّسل أُقِّتَتْ* لأيِّ يوم أُجِّلَتْ* ليوم الفَصْل* وما أدراك ما يوم الفَصْل* ويلٌ يومئذٍ للمكذّبين ((المرسلات 77/ 7 ـ 15) فالتعظيم والتهويل لم ينحصر في الاستفهام (لأي يوم أُجِّلتْ) أو (ما يوم الفَصْل؟)؛ وإنَّما كان السياق يقوي ذلك ويوضحه (61). وعليه قول ساعدة بن جؤية في وصف نتائج معركة وقد تركت وراءها إما رجلاً حزيناً على قتلاه، وإما رجلاً يتجرع حسرات الموت في آخر حياته يعاني من عطش شديد:
ماذا هنالك من أَسْوانَ مكتئب وساهفٍ ثمِلٍ في صَعْدَةٍ حِطَمِ؟!
فالجمال البلاغي يقوم على التناغم بين سياقات الأسلوب وموازاة الحالة النفسية والفكرية للمخاطب؛ فالتشكيل الجمالي إنما هو تشكيل نفسي فكري واجتماعي يرتفع عن الحالة الزمانية المؤقتة ...
14 ـ التكثير للتعظيم أو التهويل:
ربما لجأ الشعراء والعرب إلى الاستفهام المجازي الذي يدل على التكثير للتعظيم أو التهويل في أي معنىً من المعاني، أو صورة من الصور فتتعدد الإيحاءات وتعظم كقول المتنبي:
يَفْنَى الكلامُ ولا يحيط بوصفكُمْ أَيحيطُ ما يَفْنَى بما لا يَنْفَدُ؟
فالشاعر يستكثر من فضل ممدوحه ويعظّم شأن ذلك فهو لكثرته لا ينفد (62). وقد استكثر أبو العلاء المعري من مات من البشر حتى أصبحت أجسادهم جزءاً من التراب الذي ندوسه. فدل كل منهما على أن الشاعر يدرك واقعه جمالياً بمثل ما يدركه فكرياً؛ فيقول المعري:
صَاحِ هَذي قبورُنا تَمْلأُ الرَّحْـ ـبَ فأَين القبورُ من عَهْد عادِ؟!
خَفِّفِ الوَطْءَ ما أَظنُّ أَديْمَ الأ رض إلا من هذه الأَجساد
فالمعري حين استكثر قبور الموتى، جعل الأرض مقبرة؛ داعياً الإنسان إلى التواضع والعفو والمسامحة. ولذا فإن جمالية الفن لم تسقط في المباشرة والوعظ التقريري، وعليه أيضاً قول الشاعر:
كمْ مِنْ دَنِيٍّ لها قد صِرْتُ أَتبعُهُ؟ ولو صَحا القلبُ عنها كان لي تَبَعَا
ـ[د/أم عبدالرحمن]ــــــــ[27 - 10 - 2007, 01:40 ص]ـ
جزاك الله خير الجزاء