كثر خروج الاستفهام إلى النفي في كلام العرب وأشعارها، وفي القرآن ... ولعل هذا الأسلوب يثير المتلقي على جمالية من نوع بلاغي جديد وبديع كقوله تعالى:) مَنْ يغفر الذنوب إلا الله ((آل عمران 3/ 135) أي (لا يغفرها إلا الله) ... وكقوله:) من ذا الَّذي يَشْفعُ عنده إِلا بإذنه ((البقرة 2/ 255) أي (لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه). وكقوله:) هل جزاءُ الإِحسان إِلا الإحسان ((الرحمن 55/ 60) أي (ما جزاء الإحسان إلا الإحسان) (55) وقال أبو تمام:
هلِ اجتمعتْ أَحياءُ عدنانَ كُلُّها بمُلْتَحمٍ إلا وأنت أَميرُهَا؟
فلم تجتمع بطون عدنان في مكان لقتال إلا كنت أميرها. ومثله قول الشاعر:
هلِ الدَّهْرُ إلا سَاعةٌ ثم تَنْقضي بما كان فيها من بَلاءٍ ومن خَفْضِ؟
أراد: ما الدهر ... ودليل النفي في الشاهدين انتقاضه بإلا؛ ومثله قول البحتري:
هلِ الدهر إلا غَمْرةٌ وانجلاؤها وَشِيكاً وإلا ضَيْقةٌ وانفراجُها؟
10 ـ التمني:
هذا أسلوب آخر في أساليب الاستفهام كثر في كلام العرب وفي القرآن الكريم كقوله تعالى:) فهَل لنا من شُفَعاءَ فيشفعوا لنا ((الأعراف 7/ 53) فالذين خسروا أنفسهم يتمنون أن يُرَدُّوا إلى الدنيا ليعلموا غير الذي عملوه، ولكن هيهات لهم الرجوع (56). فما استعمل أسلوب التمني الحقيقي بل استعمل الاستفهام؛ فجاء الأسلوب أعلى إيحاء .... وعليه أيضاً قول أبي العتاهية في مدح الأمين:
تذكًّرْ أمينَ اللهِ حقّي وحُرْمَتي وما كنتَ تُوليني لعَلَّك تذكرُ
فمَن ليَ بالعَيْنِ التي كنتَ مَرَّةً إليَّ بها في سَالفِ الدَّهرِ تُنْظرُ؟
فالاستفهام خرج إلى التمني لإنزال الممكن منزلة المستحيل؛ لإعلاء مكانة الممدوح لأن غيره لا يستطيع فعله الذي أنفذه مع الشاعر. ومثله في التمني قول الشاعر:
ألا عُمْرَ ولَّى مُسْتطاعٌ رجوعُهُ فَيَرْأَبَ ما أثْأََتْ يدُ الغَفَلاتِ؟
فقد نَصب الشاعر فعل (يرأب) لأنه جواب تمنٍّ مقرون بالفاء ... وهيهات أن يرجع العمر الذي ذهب إلى رجعة ... إذ أفسدت يد الغفلات ذلك ... (57) فاللغة البلاغية في هذا الأسلوب وغيره تنسلخ من معيارتها النحوية إلى طريقة أسلوبية موحية ومثيرة لا تنشغل ببنية الظاهرة اللغوية الجمالية لذاتها ولكنها في آن معاً تغوص في العلاقات الكامنة فيها.
11 ـ النهي:
يخرج أسلوب الاستفهام إلى النهي عن فعل شيء ما كقوله تعالى:) أَتَخْشَونهم؟ فالله أَحَقُّ أَنْ تخشَوه إن كنتم مؤمنين ((التوبة 9/ 13) وأراد (لا تخشوهم)؛ بدليل قوله تعالى:) فلا تَخْشَوا الناس واخْشَوْنِ ((المائدة 5/ 44). ومن أسلوب الاستفهام للنهي قوله تعالى:) يا أيها الإنسانُ: ما غَرَّك برَبِّك الكريم؟ ((الانفطار 82/ 6). أراد (لا تغتر بالله ورحمته (58) واعمل لأخرتك) ... وهذا يوضحه سياق سورة الانفطار ولا سيما الآية الأخيرة التاسعة عشرة) يومَ لا تملك نفسٌ لنفس شيئاً (. فالسياق في أسلوب الاستفهام السابق غير محايد ويصبح متمماً لدلالة المنهي عنها في بُعد إيحائي يعبر عن رمزية اللغة؛ باعتبار ما تحمله من وظائف بلاغية وفكرية.
12 ـ التعظيم والتفخيم:
اللفظان كلاهما بمعنى واحد؛ وهو الإجلال والإكبار والتقدير. ويستعمل الاستفهام المجازي في هذا السياق الدلالي على نحو كبير ..... فهذا المقصد البلاغي من الأساليب الجمالية المثيرة في الدراسات البلاغية وفي أغراض القول ... فالتعظيم والتبجيل والتفخيم يرمي إليها المتكلم بأسلوب لفظي مباشر، وبأسلوب الاستفهام الحقيقي، ولكنه في الاستفهام المجازي يحمل طبيعة جمالية خاصة؛ كقول العَرْجِي مفتخراً بنفسه:
أَضَاعوني وأَيَّ فتىً أضَاعوا ليومِ كريهةٍ وسَدادِ ثَغْرِ؟
فالشاعر رفع من شأنه وأوضح أن العشيرة خسرت به رجلاً عظيماً في الشدائد. وجمع المتنبي في مديح كافور الإخشيدي بين تعظيمه وبين استنكاره لارتياب الأعداء فيما خصّه الله على يديه من النصر والحظ السعيد:
أتلتمسُ الأعداءُ بعد الذي رَأَتْ قيامَ دليلٍ أو وضوحَ بيانِ؟
وفي التعظيم والإجلال الذي ورد في الرثاء يقول المتنبي مظهراً ما كان للمرثي في حياته من صفات السيادة والشجاعة والكرم؛ ما جعل الشاعر يتحسر عليه ويتفجع لفقده:
مَنْ للمحافلِ والجحافلِ والسُّرَى فقدَتْ بفَقْدكَ نَيّراً لا يطلعُ
ومن اتخذْتَ على الضُّيوفِ خَليفةً ضاعوا ومِثلُكَ لا يكاد يُضَيِّعُ؟
¥