فعلق أحكام الكفارة على الوصف المستفاد من قول الرجل: (هَلَكْتُ وَقَعْتُ عَلَى أَهْلِي فِي رَمَضَانَ)، وهو: الجماع في نهار رمضان فيكون الجماع في نهار رمضان علة الكفارة المغلظة، ولو لم يكن هذا الوصف هو علة الحكم لصار الكلام معيبا، لأن تعقيب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على كلام الرجل بقوله: (أَعْتِقْ رَقَبَةً)، يدل بدلالة "التنبيه" على أن ما قبله علة له.
وقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في بعض روايات حديث الصلاة على النجاشي رحمه الله: (إن أخاكم قد مات بغير أرضكم فقوموا فصلوا عليه).
فعلق حكم الصلاة على الغائب على وصف: وجوده في أرض ليس فيها من يصلي عليه، فدل ذلك بدلالة المفهوم: أنه لا يصلى عليه إن مات بأرض فيها من يصلي عليه من المسلمين، وهذا اختيار شيخ الإسلام، رحمه الله، كما ذكر ابن القيم، رحمه الله، في "زاد المعاد".
وقد أشار ابن تيمية، رحمه الله، إلى هذه القاعدة بقوله: "والفعل المأمور به إذا عبر عنه بلفظ مشتق من معنى أعم فلابد أن يكون المشتق أمراً مطلوباً".
ثم علق على حديث مخالفة اليهود والنصارى بالصبغ فقال:
"ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم"، أمر بمخالفتهم، وذلك يقتضي أن يكون جنس مخالفتهم أمراً مقصوداً للشارع". اهـ
"اقتضاء الصراط المستقيم"، ص117، 118.
فعلق حكم المخالفة بالصبغ، وهي إحدى صور المخالفة على وصف المخالفة في الدين، فدل ذلك على أن عموم المخالفة أمر مقصود للشارع، عز وجل، فلا يقتصر على صورة الصبغ، فهي فرد من أفراده، وذكر بعض أفراد العام لا يخصصه، فعموم الأمر بالمخالفة محفوظ، وإنما خص هذه الصورة بالذكر في هذا الحديث لمناسبة اقتضت ذلك، فذكرها بمنزلة التعريف بمثال يوضح معنى المخالفة، ولا يمكن حصر كل أمثلة المخالفة في نص واحد، فاكتفى في الدلالة عليها بذكر أحدها، والله أعلم.
ويقول، رحمه الله، في موضع آخر:
"وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جزوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس"، فعقب الأمر بالوصف المشتق المناسب، وذلك دليل على أن مخالفة المجوس أمر مقصود للشارع، وهو العلة في هذا الحكم، أو علة أخرى، أو بعض علة، وإن كان الأظهر عند الإطلاق: أنه علة تامة، لهذا لما فهم السلف كراهة التشبه بالمجوس، في هذا وغيره - كرهوا أشياء غير منصوصة بعينها عن النبي صلى الله عليه وسلم من هدي المجوس.
وقال المروذي: (سألت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - عن حلق القفا، فقال: هو من فعل المجوس، ومن تشبه بقوم فهو منهم) ". اهـ
"اقتضاء الصراط المستقيم"، ص 128، 129.
ويقول في موضع ثالث: "وعن قيس بن أبي حازم قال: دخل أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، على امرأة من أحمس، يقال لها زينب فرآها لا تتكلم، فقال ما لها لا تتكلم؟. قالوا: حجت مصمتة، فقال لها تكلمي، فإن هذا لا يحل، هذا عمل الجاهلية ..................... رواه البخاري في صحيحه.
فأخبر أبو بكر: أن الصمت المطلق لا يحل، وعقب ذلك بقوله: هذا من عمل الجاهلية، قاصداً بذلك عيب هذا العمل، وذمه.
وتعقيب الحكم بالوصف: دليل على أن الوصف علة، ولم يشرع في الإسلام، فيدخل في هذا: كل ما اتخذ من عبادة، مما كان أهل الجاهلية يتعبدون به، ولم يشرع الله التعبد به في الإسلام، وإن لم ينوه عنه بعينه، كالمكاء والتصدية، فإن الله تعالى قال عن الكافرين: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}، والمكاء: الصفير ونحوه، والتصدية: التصفيق.
فاتخاذ هذا قربة وطاعة من عمل الجاهلية، الذي لم يشرع في الإسلام". اهـ
بتصرف يسير من: "اقتضاء الصراط المستقيم"، ص221، 222.
فوصف تلك الأعمال بأنها من أعمال الجاهلية: وصف مناسب يصلح لتعليق حكم النهي عنها عليه، وعليه يدخل في هذا النهي كل صور الجاهلية التي أبطلها الإسلام، ولا يقتصر في ذلك على الصورة الواردة في الحديث فقط، وإن كانت هي المقصودة أصالة، لأن وصف الجاهلية: عام، وصورة الصمت في الحج: فرد من أفراده، و: ذكر بعض أفراد العام لا يخصصه، كما تقدم، فاستفيد من عموم المعنى: معرفة أحكام صور كثيرة تحقق فيها، وإن لم ترد في الحديث، فكأنه: ذكر مثالا، وأحال على المعنى المستنبط منه في معرفة حكم نظائره، فلا يعقل أن يرد النص على كل صورة بعينها، كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
وهكذا يمكن الاستفادة من تأمل النصوص ومعرفة المعاني المعتبرة فيها في استنباط العلل وتفريع الأحكام، فيصير المعنى الواحد بمنزلة القاعدة الكلية التي تندرج تحتها جزئيات عديدة، وهذا باب خير عظيم، من فُتِح له سهل عليه معرفة أسرار هذه الشريعة المحكمة.
وهو من الأدلة الواضحة على أن كلام الله، عز وجل، وكلام نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد حوى من أوجه الإعجاز البلاغي ما حوى، فبألفاظ قليلة تجمع أزمة المعاني الكثيرة، فينص على أحدها ويشار إلى بقيتها إشارة لطيفة تدركها العقول الصريحة.
والإيجاز مع عدم الإخلال بمقصود الكلام: غاية علم البلاغة.
والله أعلى وأعلم.