ومن ذلك أيضا: حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالْحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ فَذَكَرَتَا للنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِيكَ الصُّوَرَ أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
فعلق حكم كونهم شرار الخلق على بناء القبور وتصوير الصور، وهو وصف متعد لا يقتصر عليهم ليقال بأن هذا الحكم خاص بهم. وإنما ذكروا في هذا السياق: لأن كلام أم حبيبة وأم سلمة، رضي الله عنهما، كان عن صنيعهم تحديدا.
وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلُوهُ لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ)، فعلق حكم النهي عن الذبح بالظفر على وصف مخالفة الحبشة لأن ذلك صنيعهم.
وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَلَا الدِّيبَاجَ وَلَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الْآخِرَةِ)، فعلق حكم تحريم لبس الحرير والشرب في آنية الذهب والفضة والأكل في صحافها على وصف: كونها مما استباحه الكفار في الدنيا، والمعنى المستنبط من مثل هذه العلة المنصوص عليها: التشبه بهم في الملبس والمأكل والمشرب، فيكون التحريم قطعا لمادة مشابهة الظاهر التي تؤدي إلى مشابهة الباطن، على أن بعض أهل العلم قد خرج عللا أخرى لهذا الحكم منها: كونها ذريعة إلى الخيلاء، ولأن في استعمالها كسرا لقلوب الفقهاء، وتضييقا للنقد المضروب، وهذه العلة كانت في أزمنة جرى التعامل فيها بالدرهم والدينار المضروبين، فتكون الأوصاف التي علق عليها الحكم في مثل هذا النص: إما منصوصا عليها كتحريم التشبه كما سبق، أو: مستنبطة مخرجة كبقية الأوصاف المذكورة التي اعتبرها الفقهاء.
ومنه أيضا حديث الْحَجَّاجُ بْنُ حَسَّانَ قَالَ دَخَلْنَا عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَحَدَّثَتْنِي أُخْتِي الْمُغِيرَةُ قَالَتْ وَأَنْتَ يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ وَلَكَ قَرْنَانِ أَوْ قُصَّتَانِ فَمَسَحَ رَأْسَكَ وَبَرَّكَ عَلَيْكَ وَقَالَ: (احْلِقُوا هَذَيْنِ أَوْ قُصُّوهُمَا فَإِنَّ هَذَا زِيُّ الْيَهُودِ).
فقد علق أنس، رضي الله عنه، حكم الحلق على وصف مشابهة اليهود في زيهم، فدل ذلك على أن هذا الوصف هو المناسب لتعليل الحكم، فيكون عاما في كل الصور التي يتحقق فيها، ولا يقتصر على صورة بعينها، فتميز المسلمين عن غيرهم أمر مراد للشارع عز وجل.
ومن ذلك أيضا: تعليق حكم النهي عن تغطية الفم في الصلاة على وصف مشابهة المجوس الذين يغطون أفواههم أمام نيرانهم التي يعبدونها، فهو وصف يصلح لتعليق الحكم عليه، وإن زاد عليه بعض أهل العلم، وصفا مستنبطا آخر يصلح لتعليق الحكم عليه وهو أن تغطية الفم مظنة عدم تحقق مخارج الحروف عند القراءة، فيكون الوصفان: المنصوص عليه والمستنبط علة الحكم، ولا محذور في تعليل الحكم بأكثر من علة.
وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ وَلَا تُحَنِّطُوهُ وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا).
فعلق حكم عدم التطييب وتخمير الرأس بوصف: الإحرام، والإحرام مظنة التلبية، فالمحرم يبعث يوم القيامة ملبيا، فنص هنا، أيضا، على الوصف الذي يصلح لتعليق الحكم عليه.
وحديث أبي هريرة، رضي الله عنه، مرفوعا: (أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ هَلَكْتُ وَقَعْتُ عَلَى أَهْلِي فِي رَمَضَانَ قَالَ أَعْتِقْ رَقَبَةً قَالَ لَيْسَ لِي قَالَ فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قَالَ لَا أَسْتَطِيعُ قَالَ فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا).
¥