"قيل: وهو أمر ومعناه التهديد والتوبيخ. وقال الزمخشري: هو أمر في معنى الخبر كقوله تعالى: {قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً} ومعناه لن يتقبل منكم أنفقتم طوعاً أو كرهاً. ونحوه قوله تعالى: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم} وقوله: أسىء بنا أو أحسنى لا ملومة. أي لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أو لا تستغفر لهم، ولا نلومك أسأت إلينا أم أحسنت. انتهى". اهـ
ومنه قوله تعالى: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)
يقول أبو حيان رحمه الله:
"وقيل: لفظه أمر ومعناه الشرط، بمعنى إنْ استغفرت أو لم تستغفر لن يغفر الله، فيكون مثل قوله: {قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم} وبمنزلة قول الشاعر:
أسيء بنا أو أحسني لا ملومة ******* لدينا ولا مقلية إن تقلت
ومر الكلام في هذا في قوله: {قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً} وإلى هذا المعنى ذهب الطبري وغيره، وهو اختيار الزمخشري قال: وقد ذكرنا أن هذا الأمر في معنى الخبر كأنه قيل: لن يغفر الله لهم استغفرت أم لم تستغفر، وإن فيه معنى الشرط، وذكرنا النكتة في المجيء به على لفظ الأمر. انتهى". اهـ
ونص كلام الزمخشري غفر الله له:
{أَنفَقُواْ} يعني في سبيل الله ووجوه البر {طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} نصب على الحال، أي طائعين أو مكرهين. فإن قلت: كيف أمرهم بالإنفاق ثم قال: {لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ}؟ قلت: هو أمر في معنى الخبر، كقوله تبارك وتعالى: {قُلْ مَن كَانَ فِي الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً} [مريم: 75] ومعناه: لن يتقبل منكم أنفقتم طوعاً أو كرهاً. ونحوه قوله تعالى: {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80] وقوله:
أَسِيئِي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لاَ مَلُومَةً ..................
أي لن يغفر الله لهم، استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم، ولا نلومك - أسأت إلينا أم أحسنت. فإن قلت: متى يجوز نحو هذا؟ قلت: إذا دلّ الكلام عليه كما جاز عكسه في قولك: رحم الله زيداً وغفر له، فإن قلت: لم فعل ذلك؟ قلت: لنكتة فيه، وهي أنّ كثيراً كأنه يقول لعزة: امتحني لطف محلك عندي وقوّة محبتي لك، وعامليني بالإساءة. والإحسان، وانظري هل يتفاوت حالي معك مسيئة كنت أو محسنة؟ .................... وكذلك المعنى: أنفقوا وانظروا هل يتقبل منكم؟ واستغفر لهم أو لا تستغفر لهم، وانظر هل ترى اختلافاً بين حال الاستغفار وتركه؟ ". اهـ
ومنه: قوله تعالى: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا)، فالاستفهام في الآية، وهو أحد أساليب الإنشاء، استفهام تقريري لما بعده، فهو بمنزلة الخبر الجازم بوقوعه، فالمعنى: قد أتى على الإنسان ........... إلخ، وإلى ذلك أشار أبو السعود، رحمه الله، بقوله:
" {هَلْ أتى} استفهامُ تقريرٍ وتقريبٍ فإنَّ هَلْ بمَعْنى قَدْ". اهـ
ونظيره:
قوله تعالى: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ)، و: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى)، و: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ)، و: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ).
ومنه أيضا:
قوله تعالى: (قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)، فـ: "اشهدوا": إنشاء أريد به الخبر، فتقدير الكلام: وأشهدكم أني .............
يقول صاحب "الجواهر" رحمه الله:
"ولم يقل: "وأشهدكم" تحاشيا وفرارا من مساواة شهادتهم بشهادة الله تعالى". اهـ
وقوله تعالى: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)، فتقدير الكلام: قل أمر ربي بالقسط وإقامة وجوهكم عند كل مسجد ودعوته مخلصين له الدين، فالأمر في: "أقيموا" و: "ادعوه": طلبي مبنى خبري معنى.
يقول صاحب "الجواهر" رحمه الله:
"ولم يقل: وإقامة وجوهكم، إشعارا بالعناية بأمر الصلاة لعظم خطرها، وجليل قدرها في الدين".
¥