وَلِأَنَّ مَا كَانَ مُحَرَّمًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَانَ مُحَرَّمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ، كَالرِّبَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَخَبَرُهُمْ مُرْسَلٌ لَا نَعْرِفُ صِحَّتَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ مَا وَرَدَ بِتَحْرِيمِهِ الْقُرْآنُ، وَتَظَاهَرَتْ بِهِ السُّنَّةُ، وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَحْرِيمِهِ، بِخَبَرِ مَجْهُولٍ، لَمْ يَرِدْ فِي صَحِيحٍ، وَلَا مُسْنَدٍ، وَلَا كِتَابٍ مَوْثُوقٍ بِهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُرْسَلٌ مُحْتَمِلٌ.
وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {لَا رِبَا}.
النَّهْيُ عَنْ الرِّبَا، كَقَوْلِهِ: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} ". اهـ
فالنفي في قوله تعالى: (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ) معناه: النهي عن الرفث والفسوق والجدال، فمآل الكلام: لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا.
ومن ذلك أيضا:
قول ذي الرمة:
ألا يا اسلمي، يا دار مي، على البلى ******* ولا زال منهلا بجرعائك القطر
فالشطر الثاني: خبر أريد به إنشاء الدعاء لدار مي بدوام الغيث، لأن دلالة: "ما زال": دلالة إثبات لدخول: "ما" النافية على الفعل: "زال" الذي يفيد بمادته النفي، و: نفي النفي إثبات كما هو معلوم.
ومنه أيضا:
قول الشاعر:
لنْ تزالوا كذلِكم ثمَّ لا زل ******* تُ لكم خالداً خلودَ الجبالِ
فالنفي بـ: "لن" في أول الشطر الأول: خبر أريد به إنشاء الدعاء لهم، بدليل عطفه على دعاء آخر: "ثم لا زلت لكم ............ "، والأصل: توافق المعطوفين، فيكون العطف هنا: عطف دعاء على دعاء، وقد رد الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد، رحمه الله، هذا الوجه بقوله: "ولكنه ليس بلازم، أي: "التوافق"، فلا يكون البيت دليلا لاحتماله وجها آخر". اهـ
و: "الدليل إذا دخله الاحتمال بطل به الاستدلال"، كما قرر الأصوليون، بشرط أن يكون الاحتمال معتبرا لا متوهما، وإلا بطل الاستدلال بكل دليل لتطرق الاحتمالات العقلية ولو كانت وهما إلى كل النصوص، واحتمال إرادة النفي المحض في هذا الموضع: احتمال معتبر لا يجوز إغفاله.
واختار ابن هشام هذا الوجه في: "مغني اللبيب"، فقال:
"وتأتي، أي: "لن"، للدعاء كما أتت لا لذلك وفاقاً لجماعة منهم ابن عصفور، والحجة في قوله:
لنْ تزالوا كذلِكم ثمَّ لا زل ******* تُ لكم خالداً خلودَ الجبالِ
وأما قوله تعالى (قالَ ربِّ بما أنعمتَ عليّ فلن أكونَ ظهيراً للمجرمين) فقيل: ليس منه لأن فعل الدعاء لا يسند الى المتكلم، (والفعل "أكون": مسند للمتكلم)، بل الى المخاطب أو الغائب، نحو يا ربِّ لا عذَّبت فُلاناً ونحو لا عذّبَ اللهُ عمراً، ويرده قوله:
لنْ تزالوا كذلِكم ثمّ لا زل ******* تُ لكمْ خالداً خلودَ الجبالِ، (فالدعاء الثاني: "لا زلتُ" مسند للمخاطب) ". اهـ بتصرف يسير
ولكنه رده في: "شرح القطر"، فقال: "ولا تقع "لن" للدعاء خلافا لابن السراج، ولا حجة له فيما استدل به من قوله تعالى: (فلن أكونَ ظهيراً للمجرمين)، مدعيا أن معناه: فاجعلني لا أكون، لإمكان حملها على النفي المحض، ويكون ذلك معاهدة منه لله سبحانه وتعالى ألا يظاهر مجرما جزاء لتلك النعمة التي أنعم بها عليه". اهـ
"شرح القطر"، ص73.
ومنه قولك: حسبك فيستريح الناس، أي: حسبك السكوت عن الكلام، على سبيل المثال، والخبر مع: "حسب" محذوف لا يظهر في الكلام الفصيح، فهو خبر أريد به الأمر، فتقدير الكلام: اسكت فيستريح الناس، ولذا أجاز الكسائي، رحمه الله، نصب الفعل المضارع بعده، إذا اتصلت به فاء السببية حملا له على الأمر الصريح في نحو: اسكت فيستريحَ الناس، إذ لا خلاف في نصب المضارع في هذه الصورة، فحمل الأمر غير الصريح بالخبر على الأمر الصريح بالإنشاء.
وصور هذا الأسلوب كثيرة جدا، ولها من المعاني الثانوية التي لا تظهر إلا بالتأمل ما لها، وهي تدل على بلاغة لغة الوحي وعلو كعبها في الدلالة على المعاني بأساليب متنوعة.
والله أعلى وأعلم.