حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، مرفوعا: (لَا يَبِيعُ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ)، فهو خبر فيه "لا" في: "لا يبيعُ"، و: "لا يخطبُ": نافية، أريد به النهي عن البيع على بيع المسلم والخطبة على خطبته، فآل الكلام إلى صورة الإنشاء: لا يبعْ أحدكم على بيع أخيه ولا يخطبْ على خطبة أخيه.
وقد جاء التصريح به في رواية مسلم، رحمه الله، عن ابن عمر، رضي الله عنهما، مرفوعا: (لَا يَبِعْ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ).
وفائدة إيراد الأمر في صورة الخبر في باب الأحكام: التوكيد على امتثالها، كما تقدم، فيكون النهي هنا، نهيا مؤكدا، لما في المنهي عنه من إيغار الصدور ووقوع البغضاء والشحناء بين المسلمين.
وقد ذهب بعض أهل العلم، كالنووي رحمه الله في شرح الأربعين، إلى أن قيد: "أخيه" لا مفهوم له، فيحرم البيع وتحرم الخطبة على بيع وخطبة غير المسلم من: أهل الذمة والمعاهدين، لأنه من باب الوفاء بالذمة والعهد.
ومنه أيضا:
حديث مكحول، رحمه الله، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مرسلا: (لا ربا بين المسلمين وأهل الحرب في دار الحرب)، فهو حجة الأحناف، رحمهم الله، في تحليل الربا بين المسلم وغير المسلم في دار الحرب، لأن: "لا" نافية للجنس، فهي نص في نفي عموم جنس ما دخلت عليه، فيكون الحديث: نصا في نفي كل صور الربا بين المسلم وغير المسلم في دار الحرب.
وأجاب الجمهور على هذا الاستدلال بـ:
تضعيف الحديث، فهو مرسل من مراسيل مكحول، ومكحول، رحمه الله، كثير الإرسال، كما ذكر الحافظ، رحمه الله، في "التقريب"، فلا حجة فيه لأن المرسل من أقسام الضعيف، ولا يرد ذلك على أصول الأحناف والمالكية، رحمهم الله، الذين يحتجون بالمرسل، وإن كان الراجح خلاف قولهم.
وأجابوا أيضا:
بأن النفي هنا: خبر أريد به النهي عن الربا بين المسلمين وأهل الحرب في دار الحرب، فكأن المقصود: النهي عن كل صور الربا في دار الحرب، حتى صح أن تكون في حكم العدم الذي لا وجود له، فالحديث بهذا التأويل: حجة على الأحناف، رحمهم الله، لأن فيه توكيدا على تحريم ما قالوا بإباحته.
وإلى ذلك أشار ابن قدامة، رحمه الله، بقوله:
"فَصْلٌ: وَيَحْرُمُ الرِّبَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، كَتَحْرِيمِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجْرِي الرِّبَا بَيْنَ مُسْلِمٍ وَحَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْحَرْبِ.
وَعَنْهُ فِي مُسْلِمَيْنِ أَسْلَمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، لَا رِبَا بَيْنَهُمَا.
لِمَا رَوَى مَكْحُولٌ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {لَا رِبَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْحَرْبِ فِي دَارِ الْحَرْبِ}.
وَلِأَنَّ أَمْوَالَهُمْ مُبَاحَةُ، وَإِنَّمَا حَظَرَهَا الْأَمَانُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ مُبَاحًا.
وَلَنَا، أي الجمهور:
قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا}.
وَقَوْلُهُ: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ}.
وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا}.
وَعُمُومُ الْأَخْبَارِ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ التَّفَاضُلِ.
وَقَوْلُهُ {: مَنْ زَادَ أَوْ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى}.
عَامٌّ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَحَادِيثِ.
¥