تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فمثلًا عندما رأى هؤلاء الذين قالوا أن الصفات المتضادة يأتي بينها الواو، وغير المتضادة لا يأتي بينها الواو، عندما وجدوا قول الحق -سبحانه وتعالى- في سورة "غافر" في قوله في أول السورة بسم الله الرحمن الرحيم: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} تكلفوا وجود تضاد بين بعض آيات السورة، حيث عطفت في الآية {قَابِلِ التَّوْبِ} على {غَافِرِ الذَّنْبِ} بالواو على الرغم من أنهما غير متضادتين.

فبعض البلاغيين -حتى تسلم لهم القاعدة- يتعسفون فيحاولون إثبات وجه من التضاد بين {غَافِرِ الذَّنْبِ} و {قَابِلِ التَّوْبِ} في الآية الكريمة، فذكروا في ذلك: أن المغفرة ترجع إلى السلب؛ لأن معنى {غَافِرُ}: الذي لا يفعل العقوبة مع الاستحقاق ففيها معنى السلب، وأما {قَابِلِ التَّوْبِ}: فقبول التوبة يرجع إلى الإثبات؛ لأن معناه قبول الندم والعذر، وبين السلب والإثبات تضاد، فيرون أن {غَافِرِ الذَّنْبِ} يعني: لا يفعل العقوبة، وأما قبول التوبة يعني: يفعل شيئًا وهو قبول الندم، وبين الفعل وعدم الفعل سلب وإثبات، وبذلك يثبت التضاد حتى تستقيم القاعدة عندما يقال لهم: إن غافر الذنب ليست ضدًّا لقابل التوب، فكيف عطفت حتى تستقيم لكم القاعدة، بالرغم من أنهما ليس بينهما تضاد؟

يقول: إن هناك تضاد لو تعمقنا؛ لأن مغفرة الذنب يعني ترك العقوبة، وقبول التوبة معناه قبول الندم، والترك والقبول كل منهما ضد للآخر، وبذلك تثبت لهم القاعدة، وهو أنه قد عطفت قابل التوب على غافر الذنب لما بينهما من التضاد وإن كان تضادًّا خفيًّا.

وقالوا أيضًا في سبيل التخريج: إن الجمع بين {قَابِلِ التَّوْبِ} و {غَافِرِ الذَّنْبِ} بالواو لسر لطيف، وهو: إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين، بين أن تقبل توبته فتكتب له طاعة، وبين أن تمحى ذنوبه كأنه لم يذنب، يبقى طاعة وعدم ذنب، فكأنهما ضدان، وبالتالي أيضًا يحاولون تصحيح القاعدة بلَيِّ النص وادعاء أن بينهما تضادًّا خفيًّا.

وقالوا أيضًا: إن المغفرة مختصة بالعبد، أي: تعود إليه، فائدتها بعد التوبة أو بدون التوبة، وقبول التوبة مختص بالله تعالى، فالله -عز وجل- يغفر حينًا من تلقاء نفسه بالفضل، وحينًا يعفو عن المذنب بسبب ندمه واعتذاره وتوبته، فالمغفرة مختصة بالعبد، وقبول التوبة مختص بالله، وبينهما -بين العبد والله سبحانه وتعالى- الرفعة والدنو، كأنهما متضادان.

وهذا -فيما نرى- تعسف ظاهر، وتكلف نحن في غنى عنه، خاصة وأن ما قالوه عن أن الصفات المتضادة يجب فيها العطف بالواو قولٌ غير مسلم لهم، فقد ترد الصفات المتضادة بدون عطف، وفي القرآن أيضًا، وهذا مما ينقض قاعدة العطف في الصفات المتضادة.

انظر قوله -سبحانه وتعالى- في سورة "الواقعة" في أولها: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} (الواقعة1: 3).

انظر إلى: {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} تجد أنه ليس بينها عطف بالواو على الرغم من أن رافعة ضد خافضة، وبالتالي انهدمت القاعدة التي وضعوها: من أن الصفات المتضادة يجب أن يوصل بينها بالواو، أو يجب أن يعطف بعضها على بعض بالواو، وغير المتضادة لا تعطف بالواو، هنا: {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} اجتمعت صفتان متضادتان للقيامة، ومع ذلك لم تأت الواو.

وجاء في الشعر العربي الذي يستشهد به قول امرئ القيس في وصف فرسه وسرعته:

مكر مفر مقبل مدبر معًا

كجلمود صخر حطه السيل من عل

يعني: هذا الفرس شديد السرعة على غير المعتاد في الخيول، فهو عندما تراه مهاجمًا، في اللحظة نفسها تجده مدبرًا، يعني: تراه متقدمًا مقبلًا في لحظة واحدة؛ ولذلك قال: يكر، والكر: هو الهجوم، مفر ومفر بمعنى: يفر عند الطعان فهو كثير الفر، وهذا معنى مكر، وجيد الكر وجيد الفر أيضًا، يعني: جيد الهجوم وجيد الفرار، وهو سريع جدًّا عندما تراه هاجمًا تراه في اللحظة نفسها فارًّا من طعنه، وعندما تراه مقبلًا للأمام فترى صدره أو رأسه في اللحظة نفسها تجد دبره أمامك، فهو مكر مفر مقبل مدبر معًا، ولذلك قال: معًا يعني: أن ترى الكر والفر في لحظة واحدة، وترى الإقبال والإدبار في لحظة واحدة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير