ثم شبهه في ذلك: بجلمود صخر يعني: بالصخرة الضخمة التي تنزل من أعلى الجبل بسبب أن السيول الشديدة تدفعه، فأنت ترى جانبًا من جوانب الصخرة، ثم لسرعتها ترى الجانب الآخر، فكأنك رأيت وجهها ورأيت مؤخرها في لحظة واحدة، كجلمود صخر حطه السيل من عل، فصخرة كبيرة تنحدر من أعلى الجبل إلى الأسفل بسرعة شديدة، يدفعها السيل دفعًا شديدًا، فأنت في اللحظة التي ترى فيها جانبًا منها ترى الجانب الآخر، فكأنك ترى مقدمها ومؤخرها في اللحظة نفسها.
هنا مكر ضد مفر، ومقبل ضد مدبر، وهذا كلام يستشهد به، ولم تأت الواو على القاعدة التي وضعها بعض البلاغيين: من أن الصفات المتضادة ينبغي أن يأتي بينها الواو.
وأما الصفات غير المتضادة التي قالوا: إنها لا تأتي فيها الواو؛ قد نجد صفات غير متضادة، ومع ذلك جاءت فيها الواو، مثل الآية المذكورة: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} فليس بينهما تضاد ومع ذلك تكلفوا بينهما تضادًّا خفيًا حتى تستقيم القاعدة، وكما قلت: كأنهم يحكمون القاعدة في النص القرآني.
انظر قوله -سبحانه وتعالى- في سورة "آل عمران" الآية السادسة عشرة والسابعة عشرة: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}.
انظر: الصابرين، والصادقين، والقانتين، والمنفقين، والمستغفرين هذه صفات لا تضاد بينها، ومع ذلك جاءت فيها الواو، إذن انهدمت قاعدة بعض البلاغيين الذين أوجبوا أن توضع الواو بين الصفات المتضادة، وأن تترك الواو بين الصفات غير المتضادة.
{خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} لم تأت فيها الواو، مكر مفر مقبل مدبر معًا لم تأت فيها الواو، صفات غير متضادة وجاءت فيها الواو: الصابرين، والصادقين، والقانتين، والمنفقين، والمستغفرين جاءت فيها الواو، انهدمت القاعدة.
كذلك في سورة "الأحزاب": {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} إلى آخره ... جاءت فيها الواو على الرغم من أن الصفات غير متضادة.
إذن الأولى أن نضرب صفحًا على قول بعض البلاغيين من الصفات المتضادة لا بد من مجيء الواو بينها، وغير المتضادة تترك الواو،
إن قاعدة بعض البلاغيين من وجوب وجود الواو بين الصفات المتضادة، وترك الواو بين الصفات غير المتضادة قاعدة لم تثبت، والنصوص هدمت هذه القاعدة، فالأولى أن ننظر إلى الموضوع من جهة أخرى، والأولى في الدراسة البلاغية أن تبحث عن الأسرار الكامنة وراء الواو إن وجدت، وأن تكشف وتجلي سر مجيئها حينما تأتي، وأن تكشف وتجلي سر ترك الواو حين تترك، فلا ينبغي النظر إلى التضاد في الصفات أو عدم التضاد، وإنما ينبغي البحث عندما تأتي الواو، سواء كان بين الصفات المتضادة أو غير المتضادة، أو ترك الواو بين الصفات المتضادة أو غير المتضادة ينبغي أن نبحث في مجيء الواو، ولماذا جاءت؟ ولا ننظر إلى التضاد وعدم التضاد، وننظر في ترك الواو ولماذا لم تجئ؟ سواء كانت الصفات متضادة أو غير متضادة. هذا هو الذي ينبغي أن يبحث فيه، لماذا جاءت الواو؟ ولماذا تركت الواو؟
فهذه الواو تفيد التغاير، الواو لا بد أن تفيد التغاير، ولذلك لا يعطف الشيء على نفسه، لا تعطف الذات على الذات، بمعنى: أن تكون الذات الثانية هي الأولى، فالواو تفيد التغاير بين المعطوف المعطوف عليه، هذا معني أساسي في حروف العطف، لا بد أن يكون المعطوف غير المعطوف عليه بوجه من الوجوه، وعندما تأتي الواو بين الصفات؛ فإنها تفيد كمال اتصاف الموصوف بكل صفة منها على حدة، فكأن كل صفة عندما تأتي الواو كما في قوله -سبحانه وتعالى-: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ} وقوله تعالى: {الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} هذه الواو تفيد أن الموصوف بصفة منها قد بلغ الكمال في كل صفة على انفراد.
¥