تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

انظر إلى قوله تعالى: {الصَّابِرِينَ وَالَّصادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ} تجد أن الواو دلت على كمال الموصوفين في كل واحدة منها على انفراد، يعني: الموصوفون بهذه الصفات بلغوا الكمال في الصبر، وبلغوا الكمال في الصدق، وبلغوا الكمال في القنوت أي: الطاعة، هكذا بقية الصفات، هذا عندما تأتي الواو، فلأنها تفيد التغاير، فهذا يعني: أن الموصوفين بالصفات التي جاءت بينها الواو قد بلغوا درجة الكمال في كل صفة منها على انفرادها.

أما عندما تترك الواو، وتأتي الصفات متوالية بدون الواو، فإن ذلك يفيد كمال اجتماع هذه الصفات في الموصوف، يعني: الواو التي تفيد التغاير تعني أن الصفة بلغت الكمال، عندما تأتي الصفات بدون واو فإن ذلك يفيد تمام اجتماع كل هذه الصفات في موصوف واحد.

خذ مثلًا قول الحق -سبحانه وتعالى-: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ} وكذلك {مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ} وتأمل تجد أن ترك الواو أفاد أن هذه الصفات مجتمعة في الموصوفين، وكأن هذه الصفات بدون الواو كأنها صفة واحدة، وفرق جوهري بين أن تكون الصفات مجتمعة في حكم الصفة الواحدة، وبين أن تكون كل صفة منها قد بلغت الكمال على انفرادها، هذا معنى وهذا معنى آخر.

مرة ثانية: الصفات سواء كانت متضادة أو غير متضادة عندما تأتي بالواو، فإن ذلك يدل على أن الموصوف بكل صفة من هذه الصفات قد بلغ الكمال في هذه الصفة وحدها بصرف النظر عن غيرها، وأما عندما تجتمع الصفات متضادة أو غير متضادة بغير الواو فهذا يعني: أن هذه الصفات مجتمعة في موصوف كأنها صفة واحدة، فذكر الواو بين الصفات يفيد أنهم كاملون في كل صفة على انفراد، وترك الواو بين الصفات يفيد أن هذه الصفات مجتمعة فيهم، وكأنها امتزجت وصارت صفة واحدة، وعلى هذا جاء قول امرئ القيس:

مكر مفر مقبل مدبر معًا

كجلمود صخر حطه السيل من عل

يفيد أن هذه الصفات وهي: الكر، والفر، والإقبال، والإدبار قد اجتمعت في الجواد أو في الفرس في وقت واحد من غير أن تكون مستقلة متغايرة، وإنما أصبحت كأنها صفة واحدة ولو أن امرأ القيس قال: مكر ومفر ومقبل ومدبر، لما صح أن يقول: معًا، فكلمة معًا أفادت أن هذه الصفات على الرغم من أنها متغايرة كأنها صفة واحدة، فكأن الكر والفر والإقبال والإدبار صفة واحدة نراها في هذا الفرس، ولذلك قال: معًا، ولو جاءت الواو ما صح له أن يقول: معًا؛ لأنه لو جاءت الواو لكان معنى ذلك: أن الفرس وصل في الكر إلى درجة الكمال على الانفراد، وأنه في الفر وصل إلى درجة الكمال على الانفراد، وأنه في الإقبال وصل إلى درجة الكمال في الإقبال على الانفراد، وأنه في الإدبار وصل فيه إلى درجة الكمال على الانفراد، وهو لا يريد هذا المعنى؛ لأنه لو جاءت الواو ما أفادت سرعة الفرس، وما أفادت هذه السرعة غير المعتادة في الخيل، لو جاءت الواو لأدت معنى أن امرأ القيس يريد أن يعدد كل وصف على حده غير ممتزج بغيره، والشاعر هنا أراد: أن هذه الأوصاف امتزجت فصارت كأنها صفة واحدة، وهذا هو الذي يسر له أن يقول: معًا بعد أن ذكر هذه الصفات بغير الواو، فانظر إلى هذه الدقائق.

وكذلك القول في الآية الكريمة: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} (الواقعة: 2، 3) أي: أن الزلزلة الشديدة، أو الهول الشديد يوم القيامة يحدث فيه الخفض والرفع في زمن واحد، وكأنهما صفة واحدة، ويقع من الواقعة الفعلان معًا وفي اللحظة نفسها، ولو قيل في غير القرآن: خافضة ورافعة لم يفد هذا المعنى؛ لأن الخفض قد يكون في زمان، والرفع في زمان آخر، أما: {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} تصور أنك تمسك في يدك شيئًا ترفعه وتخفضه في لحظة واحدة، وانظر إلى الرجة الشديدة التي تحدث هناك فرق بين هذه الصورة من أن ترفع الشيء وتخفضه في اللحظة نفسها، وبين أن ترفعه في وقت، وأن تخفضه في وقت آخر، فهذا يكون فيه راحة، لكن ما في يوم القيامة ليس فيه راحة، فهي تخفض ترفع في لحظة واحدة، وهذا هو الهول الكبير الذي تخوف منه السورة: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} (الواقعة: 1: 3).

ثم انظر بقية الآيات: {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} (الواقعة: 4: 6)، انظر إلى هذه السورة الرهيبة الخفض والرفع في لحظة واحدة، فبينما ترى المخلوق في حالة رفع تراه في اللحظة نفسها في حالة خفض، للزلزلة الشديدة وهذا ينبئ عن الهول العظيم، أما: خافضة ورافعة فهذا لا ينبئ عن الهول، صحيح فيها هول ولكنه ليس بالدرجة نفسها في: {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ}.

وكذلك قولك: فلان كاتب شاعر، مخالف؛ لأن تقول: فلان شاعر وكاتب؛ لأن فلان شاعر وكاتب هذا تقصد فيه أن تقول إنه وصل في الشاعرية إلى درجة الكمال على الانفراد، وفي الكتابة إلى درجة الكمال على الانفراد.

أما فلان كاتب شاعر فالصفتان قد امتزجتا، فكأنهما صفة واحدة، فكاتب شاعر أفاد اجتماع الكتابة والشعر في فلان، لكنه لم يفد الكمال في كل صفة على الانفراد، وأما الثاني: فلان شاعر وكاتب فيفيد كمال الاتصاف في الشاعرية على حده، وكمال الكتابة على حده.

منقول من محاضرة في البلاغة

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير