والسمع قد تعلق بالألحان ففرغ من القرآن إذ لا يجتمع وحي الرحمن ووحي الشيطان في جوف واحد، فهما من التناقض بمكان، ولذلك تجد من أكثر من الاستماع إلى الأنغام المطربة قد غلب عليه حب الغناء، فيطرب قلبه وتضطرب أعضاؤه على حد ما تقدم من أفعال وحركات السفهاء، ولو كان المتلو قرآنا لا شعرا، فأذنه تسبق قلبه، وهمه تتبع صوت التالي فهو الأصل عنده، والمعاني قد لا تخطر على باله كما نرى في مسلك المستمعين في التلاوات القديمة التي تبثها الإذاعات القرآنية المتخصصة، فالقارئ يتكلف من الضغط على الحروف والمط في المدود ما يتنزع به آهات الإعجاب، ولو كانت الآيات آيات عذاب تقشعر من معانيها لمن تدبرها جلود المستمعين للوحي المنزل لا للنغم المطرب.
ويقول في معرض نقد قول أبي القاسم القشيري، رحمه الله، في رسالته المعروفة: "وقال تعالى: (فهم في روضة يحبرون) جاء في التفسير أنه: السماع". اهـ
يقول رحمه الله:
"فهذا قد ورد عن طائفة من السلف أنه السماع الحسن في الجنة وان الحور العين يغنين بأصوات لم يسمع الخلائق بأحسن منها لكن تنعيم الله تعالى لعباده بالأصوات الحسنة في الجنة واستماعها لا يقتضي أنه يشرِّع أو يبيح سماع كل صوت في الدنيا فقد وعد في الآخرة بأشياء حرمها في الدنيا كالخمر والحرير وأواني الذهب والفضة.
بل قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة)، وقال: (من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة)، وقال: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة).
وهذه الأحاديث من الصحاح المشاهير المجمع على صحتها فقد أخبر أنه من استعمل هذه الأمور في الدنيا من المطعوم والملبوس وغيرها لم يستعمله في الآخرة.
فلو قيل له هذا السماع الحسن الموعود به في الجنة هو لمن نزه مسامعه في الدنيا عن سماع الملاهي لكان هذا أشبه بالحق والسنة.
وقد ورد به الأثر: (يقول الله يوم القيامة: أين الذين كانوا ينزهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشياطين أدخلوهم وأسمعوهم تحميدي وتمجيدي والثناء علي وأخبروهم أنهم لا خوف عليهم ولاهم يحزنون) ". اهـ
"الاستقامة"، ص178.
فإن الشيء قد يكون في الدنيا محرما لغلبة المفسدة فيه، فلا ينكر أحد أن السماع قد يولد في نفس السامع نوع رقة، ولكن مفسدته أعظم من تلك المصلحة العارضة، فهو يشغل القلب في دار التكليف عن سماع آيات التنزيل، فيصير صاحبه إلى فساد من القول والعمل عريض، فلذته لا تقاوم مفسدته، والدنيا دار آلام وابتلاء بالكون والشرع، ولازم الابتلاء الشرعي دوام الإنصات والاستماع إلى قول الشرع الفصل في كل علم باطن وعمل ظاهر، فهو الحكم المهيمن على القلوب والجوارح، فإذا لم يفرغ السمع له فزاحمه صاحبه بالألحان والأشعار، وإن كان من الأشعار ما هو مباح، إن زاحمه بذلك لم ينل السمع حظه من الاستماع على حد التدبر، فغايته السماع غير المؤثر في المحل، فلا يمر منه إلى القلب من أغذية الوحي النافعة ما يقيم به أوده في حربه الضروس مع جند الشبهات والشهوات، فمؤنه على وشك النفاد، ولما تضع الحرب أوزارها، فكيف له الانتصار في معركة وقتها مضيق هو: العمر بأكمله، إذ هي على حد الواجب المضيق المصطلح عليه في علم الأصول فلا يتسع زمانها لغيرها مما هو من جنسها، فإنها قد استغرقت زمن التكليف بأكمله، بل إن الشيطان لا يغفل عن ابن آدم، وإن ارتفع عنه التكليف بنوم أو إغماء، فكيده له متصل لا ينقطع، فلزم من ذلك أن تتصل إمدادات الوحي إلى القلب فإن انقطعت بالانصراف إلى الألحان، أو قلت بقدر ميل القلب إلى الأنغام صار الجيش إلى وصف الخلل والاضطراب أقرب، فهو إلى الهزيمة والنكول أقرب.
وأما في الآخرة فإن السماع يكون على حد التنعيم في دار لا تكليف فيها، فالمفسدة قد صارت مأمونة من وجهين:
الأول: أنه سماع حسن لا فحش فيه ولا خبث.
والثاني: أن التكليف قد انقطع، إلا ما يلهمه أهل الجنة من التسبيح، فلا ينقطع كما لا ينقطع النفس، ولا مشقة فيه إذ لا يحس أحد بمشقة في اجتذاب الهواء إلى صدره، بل هو إلى وصف اللاإرادي أقرب.
¥