تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فالشاهد أنه لا تكليف في دار الجزاء يخشى على المتنعم بالسماع أو نحوه مما يجتذب القلب ويشغله، يخشى عليه من الانصراف عنه، فالنعيم في دار الابتلاء: عارض مراد لغيره إذ به تستجم النفوس لحظات لتعاود السير إلى الرب، جل وعلا، في سفر الهجرة الطويل فالإفراط فيه وجعله مرادا لذاته، فيشغل جل الأوقات، بحجة: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ): مظنة فساد الحال والمآل، فيقفر القلب من مادة الإيمان التي بها قوامه، ويحشر العبد في دار الجزاء فقيرا من الحسنات المنجيات، فإذا كان ذلك في سماع مباح أفرط صاحبه في تعاطيه فكيف بالسماع المحرم المفسد للقلب ابتداء فهو النقيض للوحي المنزل الذي به تطهر القلوب وتزكو النفوس.

وأما النعيم في دار الجزاء فهو مراد لذاته، فلا يخشى على العبد من الاستكثار منه، إذ لا تكليف إلا على حد التسبيح المتقدم الذكر، فلا مشقة فيه تتطلب جهدا يدخره المكلف فلا يصرفه في تحصيل شهوة آنية زائلة.

ويقول، رحمه الله، في معرض الرد على من استدل بإباحة بعض أهل المدينة: السماع، وقولهم في هذا الباب مرجوح، يقول:

"فإنه وإن نقل عن بعض أهل المدينة وغيرهم أنه سمع الغناء فلم يقل أحد منهم أنه مستحب في الدين ومختار في الشرع أصلا بل كان فاعل ذلك منهم يرى مع ذلك كراهته وأن تركه أفضل أو يرى أنه من الذنوب وغايته أن يطلب سلامته من الإثم أو يراه مباحا كالتوسع في لذات المطاعم والمشارب والملابس والمساكن فأما رجاء الثواب بفعله والتقرب إلى الله فهذا لا يحفظ عن أحد من سلف الأمة وأئمتها بل المحفوظ عنهم أنهم رأوا هذا من ابتداع الزنادقة كما قال الحسن بن عبد العزيز الجروي سمعت الشافعي يقول: "خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن".

والتغبير هو الضرب بالقضيب. غبر: أي أثار غبارا وهو آلة من الآلات التي تقرن بتلحين الغناء.

والشافعي بكمال علمه وإيمانه علم ان هذا مما يصد القلوب عن القرآن ويعوضها به عنه كما قد وقع أن هذا إنما يقصده زندبق منافق من منافقة المشركين أو الصابئين وأهل الكتاب فإنهم هم الذين أمروا بهذا في الأصل كما قال ابن الرواندي: "اختلف الفقهاء في السماع فقال بعضهم: هو مباح، وقال بعضهم: هو محرم وعندي أنه واجب وهذا مما اعتضد به أبو عبد الرحمن في مسألة السماع وهذا، (أي: ابن الرواندي)، متهم بالزندقة". اهـ

"الاستقامة"، ص181، 182.

فكيف يستدل لمقالة شرعية على حد الاستحباب بل الوجوب بقول متهم بالزندقة؟!، وذلك من أمارات تهافت أدلة أهل الطريق ممن أباحوا السماع بل جعلوه من علامات كمال السائر إلى الله عز وجل!.

وحب السماع أمر قد غلب على الفلاسفة الإسلاميين الذين وضعوا لتصفية النفس من الأكدار، رسوما لا تستند إلى الشرع المنزل، بل هي على الضد منه، كما أثر عن ابن سينا الذي كان يرى السماع والعشق من المطلفات النفسانية التي ترتقي بصاحبها في معاريج الكمال، فتكتمل قواه التخييلية والتأثيرية، لتصير على حد النبوة!، فالتزكية عندهم ذريعة إلى اكتساب النبوة التي جعلوها بمنزلة الصناعات الأرضية التي يتقنها من باشر أسبابها، وذلك باب واسع من أبواب الزندقة ولج منه من ولج من غلاة الفلاسفة وأهل الطريق.

يقول ابن تيمية رحمه الله:

"وكذلك ابن سينا في إشاراته أمر بسماع الألحان وبعشق الصور وجعل ذلك مما يزكي النفوس ويهذبها ويصفيها وهو من الصابئة الذين خلطوا بها من الحنيفة ما خلطوا، (فهو أول من قرب الفلسفة إلى الدين فهذبها في كتاب "الإشارات" الذي يعد برزخا بين نقيضين رام ابن سينا الجمع بينهما، فخرج بمسخ مشوه لا هو ديني محض ولا هو على الضد: فلسفي وثني محض)، وقبله الفارابي كان إماما في صناعة التصويت موسيقيا عظيما". اهـ

بتصرف من: "الاستقامة"، ص182.

وقد ذكر ابن خلكان، رحمه الله، في ترجمة الفارابي ما يحكى من أن آلة: "القانون" المعروفة من وضعه، ومن: (مَنْ سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزرُ مَنْ عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئًا)، وبئست السنة الصارفة عن الاستماع إلى الوحي الرحماني إلى نقيضه من الوحي الشيطاني.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير