تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والاضطراب أمر يعتري كل سامع للغناء فإن لم يضطرب بجسده كله: اضطربت يده طرقا على مقعد أو طاولة، أو قدمه طرقا على الأرض، فإن لم يحدث له شيء من ذلك: اضطرب قلبه فاعترته خفة هي شعبة من خفة العقل التي تحمل من نراهم في المهرجانات الغنائية على الرقص والتشنج، فذلك مئنة من خلو أجوافهم من الوحي النافع فهي بيوت خربة وإن كانت الصور الظاهرة ناضرة، وبعضهم يذرف الدمع على حد الهيستيريا، وبعضهم اعتلى خشبة المسرح يوما ما ليقبل قدم امرأة قد جاوزت الستين تغني في تسجيل مشهور تعرضه بعض القنوات على حد المنقبة! لتلك المرأة التي كانت، عند التأمل، من أسباب إصابة شعب بأكمله بالخدر الفكري، إن صح التعبير، حتى استيقظ على نكبات متوالية من لدن فضيحة 67 لا زال يعيش آثارها حتى الآن، وقد كانت سوق الطرب خصوصا، والفواحش عموما رائجة آنذاك، فأدى ذلك، بمقتضى السنة الكونية النافذة، سنة: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) أدى إلى وقوع الابتلاء الكوني بالهزيمة العسكرية التي استنفذت الموارد وأصابت الأمة بعقوبة الفقر وضيق المعايش مع ما يتولد من ذلك من مفاسد أخر يطول ذكرها فالفقر من الأدواء المفسدة لعامة الناس لا سيما مع رقة الدين.

فكيف يكون الغناء، ولو على حد الموشحات الدينية، سببا في إصلاح النفوس، وهو عند التحقيق سبب رئيس في خرابها، وفساد قول وعمل سامعها.

ويوم سقطت غرناطة: حمد أهل المغرب الذين ورثوا التراث الغنائي الأندلسي!، حمدوا لمن نزح من الجزيرة الأندلسية المفقودة، كما يقول أحد الفضلاء المعاصرين، أنهم اصطحبوا آلات الطرب التي أدخلها زرياب وأمثاله إلى الأندلس زمن إمارة بني أمية، مع أن تلك الآلات كانت من الأسباب الرئيسية في سقوط الخلافة الأموية الثانية في الأندلس، وقد كانت من الشرف وعلو المكانة على بقية الممالك الأوربية المجاورة بمكان، بل على جل الممالك العالمية حتى نازعت خلافة الشرق في بغداد السيادة، ثم سرى أثرها المفسد إلى قصور ملوك الطوائف الذين تنافسوا في اقتناء أبرع المغنيات وبذلوا في سبيل ذلك نفائس الأموال مع أنهم كانوا يدفعون الجزية عن يد وهم صاغرون لنصارى الشمال الإسباني!، ثم سرى أخيرا إلى غرناطة التي نجح المهجرون منها في استنقاذ سبب من أسباب سقوط إمارتهم وطردهم من أرضهم لينقلوها إلى الأمة المغربية، فعجبا لمن يحمد لغيره أنه سبب رئيس في فساد حاله!، وهل ذلك إلا من فساد التصور الذي أنتجه البعد عن الوحي المنزل وعن تدبر آياته المسطورة، وعن تدبر سنن الباري، عز وجل، الكونية، في خلقه، ومنها سننه في قيام الدول وانهيارها.

والسنة الشرعية والكونية قاضية بأنه: إذا كان ثم نبوة ووحي، وثم تدبر لهما، وسير على منهاجهما، فالدول قوية عزيزة، على حد ما نقل إلينا من تاريخ أمة الإسلام المجيد أيام الخلافة الراشدة وما تلاها من عصور القوة والازدهار شطرا من خلافني بني أمية وبني العباس، ولمحات مضيئة إبان دول السلاجقة ومن ورث ملكهم من آل زنكي وآل أيوب، وما ظهر في المغرب من دولة بني أمية في دورها الثاني من لدن قيامها على يد الأمير الشريد: عبد الرحمن الداخل، رحمه الله، إلى وفاة الخليفة الحكم المستنصر، رحمه الله، ذلك الفقيه العالم، وما تلاة من قيام المنصور العامري، رحمه الله، ذلك الحاجب المجاهد، وما ظهر من حركات إصلاحية كحركة الفقيه عبد الله بن ياسين، رحمه الله، وما تفرع عنها من ملك المرابطين الملثمين، ولمحات من ملك من خلفهم من الموحدين، وإن كانوا في الجملة على غير طريق الاستقامة سائرين إلا آحادا منهم كالخليفة الشهم ناصر الملة والدين: أبي يوسف يعقوب المنصور، رحمه الله، بطل موقعة "الأرك" الشهيرة.

فتلك، كما تقدم، سنة ربانية مطردة، سنة: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)

وفي المقابل إذا لم يكن ثم نبوة ووحي، وتدبر لهما، وسير على منهاجهما، أو كان ثم منهما أثر، ولكن أهله في الجملة: فيه مفرطون، وإن لم يخرجوا بذلك عن دائرة اعتناقه والانتساب إليه، فالدول ضعيفة ذليلة، وواقعنا المعاصر خير شاهد على ذلك.

والكلام في هذا المقام ليس في الأسماء والأحكام الشرعية، وإنما في بيان الأحوال الجارية الآن على أمة الإسلام فرعا عما تفشى فيها من صور المخالفة للوحي المنزل.

وإلى الله المشتكى.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير