وأهل السماع المحدث أقرب فئام هذه الأمة إلى النصارى الذين جعلوا الألحان أصلا في دينهم كما هو مشاهد في قداساتهم التي يغلب عليها الترتيل على حد التنغيم والتطريب، ومن استمع إلى الموشحات والقداسات وجد بينها من التناسب ما يدل على وحدة الأصل، فهو محض طرب يهيج النفوس فهي آنذاك أبعد ما تكون عن الخشوع الذي تطمئن به القلوب فذلك لا يكون إلا بسماع الوحي المنزل لا النغم المطرب.
يقول ابن تيمية رحمه الله:
"وكثيرا ما يبتلى كثير من أهل السماع بشعبة من حال النصارى من الغلو في الدين واتباع أهواء قوم قد ضلوا من قبل وإن كان فيهم من فيه فضل وصلاح، فهم فيما ابتدعوه من ذلك ضالون عن سبيل الله يحسبون أن هذه البدعة تهديهم إلى محبة الله وإنها لتصدهم عن سبيل الله فإنهم عشوا عن ذكر الله الذي هو كتابه: عن استماعه وتدبره واتباعه". اهـ
"الاستقامة"، ص191.
وللشاطبي، رحمه الله، تقرير بديع في الفرقان بين الخشوع المسكن الذي يتولد من سماع الآيات، والطرب المهيج الذي يتولد من سماع الأنغام، فيصدر من صاحبه حال هيجان نفسه ما يخجل من التلبس به من له مسكة من عقل.
يقول رحمه الله:
"ولا بد من النظر في الأمر كله الموجب للتأثر الظاهر في السلف الأولين مع هؤلاء المدعين، (أي: أصحاب السماعات الذين يدعون الحال الصالح حين السماع، وهو عند التحقيق: حظ نفس مفسد لها باعتبار المآل وإن كانت تستمتع به باعتبار الحال)، فوجدنا الأولين يظهر عليهم ذلك الأثر بسبب ذكر الله أو بسماع آية من كتاب الله وبسبب رؤية اعتبارية - كما في قصة الربيع عند رؤيته للحداد والأتون وهو موقد النار - ولسبب قراءة في صلاة أو غيرها ولم نجد أحدا منهم - فيما نقل العلماء - يستعملون الترنم بالأشعار لترق نفوسهم فتتأثر ظواهرهم وطائفة الفقراء على الضد منهم فإنهم يستعملون القرآن والحديث والوعظ والتذكير فلا تتأثر ظواهرهم فإذا قام المزمر تسابقوا إلى حركاتهم المعروفة لهم فبالحري أن لا يتأثروا على تلك الوجوه المكروهة المبتدعة لأن الحق لا ينتج إلا حقا كما أن الباطل لا ينتج إلا باطلا.
وعلى هذا التقرير ينبنى النظر في حقيقة الرقة المذكورة وهي المحركة للظاهر وذلك أن الرقة ضد الغلظ فنقول هذا رقيق ليس بغليظ ومكان رقيق إذا كان لين التراب ومثله الغليظ فإذا وصف بذلك فهو راجع إلى لينه وتأثره ضد القسوة ويشعر بذلك قوله تعالى: (ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) لأن القلب الرقيق إذا أوردت عليه الموعظة خضع لها ولان وانقاد ولذلك قال تعالى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) فإن الوجل تأثر ولين يحصل في القلب بسبب الموعظة فترى الجلد من أجل ذلك يقشعر والعين تدمع واللين إذا حل بالقلب - وهو باطن الإنسان _ حل بالجلد بشهادة الله - وهو ظاهر الإنسان - فقد حل الانفعال بمجموع الإنسان وذلك يقتضي السكون لا الحركة والانزعاج والسكون لا الصياح وهي حالة السلف الأولين - كما تقدم - فإذا رأيت أحدا سمع موعظة أي موعظة كانت فيظهر عليه من الأثر ما ظهر على السلف الصالح - علمت أنها رقة هي أول الوجد وأنها صحيحة لا اعتراض فيها
وإذا رأيت احدا سمع موعظة قرآنية أو سنية أو حكمية ولم يظهر عليه من تلك الآثار شىء حتى يسمع شعرا مرقما أو غناء مطربا فتأثر فإنه لا يظهر عليه في الغالب من تلك الآثار شىء وإنما يظهر عليه انزعاج بقيام أو دوران أو شطح أو صياح أو ما يناسب ذلك.
وسببه أن الذى حل بباطنه ليس بالرقة المذكورة أولا بل هو الطرب الذي يناسب الغناء لأن الرقة ضد القسوة - كما تقدم - والطرب ضد الخشوع - كما يقوله الصوفية - والطرب مناسب للحركة لأنه ثوران الطباع ولذلك اشترك فيه مع الإنسان الحيوان كالإبل والنحل ومن لا عقل له من الأطفال وغير ذلك.
والخشوع ضده لأنه راجع إلى السكون وقد فسر به لغة كما فسر الطرب بأنه خفة تصحب الإنسان من حزن أو سرور". اهـ
بتصرف من: "الاعتصام"، ص267، 268.
فحالهم عند التحقيق إلى البهائم العجماوات أقرب، وقد قيل فيما قد قيل إن البهائم في الدول الأوروبية المتقدمة!، تعزف لها الألحان حال الدر، لتدر لبنا أكثر!.
¥