تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فالنبي يجمع أتباعه على حد الاعتصام بحبل الله، عز وجل، وذلك مما أرشد إليه الوحي أتباع الأنبياء عليهم السلام في نحو قوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا)، فأمر بالاعتصام بحبل الشرع الذي هو الذريعة إلى الاجتماع في أمر الكون، فتتآلف القلوب على أمر الشرع الصحيح باطنا، وتتآلف الأبدان على أمر الكون ظاهرا، فصلاح الباطن ذريعة إلى صلاح الظاهر، ونهى عن ضده لزوما إذ الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده، فوقوع الضد رافع له، فنهى عن الفرقة باتباع أهواء العقول المتباينة التي تتباين المقالات الحادثة بتباين أحكامها المضطربة غير المطردة في الإلهيات باعتراف أصحاب العقول الذكية التي لم تنل حظا من التزكية الشرعية، فذكاؤها بلا زكاء، إذ أقروا بعد طول بحث ونظر أن العقل لا يستقل بإدراك سائر المغيبات بمعزل عن الوحي، الذي يمده بالتصور الكامل لها، فتصور العقل للإله المعبود ذاتا وصفاتا، والدار الآخرة وما يجري فيها من بعث الأجساد وجزاء الأعمال ........ إلخ: تصور مجمل بمقتضى الفطرة الأولى التي تدرك الكليات دون الجزئيات مع ما يعرض لها من الانحراف، فتأتي الرسالة لتبين المجمل الكلي على حد التفصيل الرافع لكل إشكال المزيل لكل إبهام، وترد ما انحرف من الفطر التي تلطخت بأدران الشرك والبدعة إلى جادة طريق التوحيد والسنة.

والاضطراب لا يختص بالإلهيات الغيبية دون الحكميات العملية، كما يلزم من كلام العلمانيين المعاصرين الذين أقروا للوحي ولايته على أمور الغيب، فتلك أمور قلبية لا أثر ظاهر لها في عالم الشهادة، بزعمهم، فلكل أن يعتقد ما يشاء، على حد حرية الفكر التي يروج لها الآن، وهي كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين، حجاب لطيف المبنى لأمر فاحش المعنى، فهي حرية: الردة والكفر برسم حرية الرأي والفكر، فللوحي: ولاية الغيب، وللعقل: ولاية الشهادة، فالوحي عن ولاية الشهادة معزول، والعقل عن ولاية الغيب معزول، وليتهم أقروا تلك القسمة الجائرة، بل أبوا إلا أن يتعدى العقل على سلطان الغيب فأقحموا عقولهم في مسائل الغيب التي لا يستقل العقل، كما تقدم، بدركها وإن تصورها إجمالا بمقتضى ما ركب فيه من الفطرة الأولى.

فالاضطراب يطرد في الحكميات العملية أيضا، إذ لا يستقل العقل، وإن بلغ ما بلغ من الذكاء، بدرك وجه المصلحة على حد التمام، فإدراكه آني يتبدل بتبدل الأحوال وتوالي الأغيار فيبدو له من المصالح ما كان عنه خافيا، فتتغير أحكامه تبعا لتغير أحواله، وذلك مظنة الاضطراب الذي لا يتصور في حق الباري، عز وجل، إذ له من العلم المحيط والحكمة البالغة ما شرع به من الأحكام ما يحصل به العباد أعظم المصالح الدنيوية والأخروية، فهي صلاح للدين والدنيا بها تحفظ الضرورات وتراعى الحاجيات وتستكمل التحسينات.

والعقل مع ذلك القصور في عالم الشهادة، يعجز، أيضا، عن إدراك أحكام ما بعد هذه الدار، فيدرك، قبل ورود الشرع، من أمور الدار الآخرة: أمورا مجملة لا يحصل بها ري ولا شبع، فقياسه، إن سلم جدلا بصحته مطلقا في أمور الشهادة، لا يجري على أمور الغيب، إذ ذلك من قياس الغائب على الشاهد، وهو قياس فاسد لوجود الفارق، مع جهل حقيقة الفرع المقيس، فلا يوقفه على أحكام تلك الدار إلا خبر الوحي الصحيح، وذلك وجه آخر من وجوه كثيرة يفتقر فيها العقل إلى ولاية النقل الذي يعصمه من الخطأ، فولايته: ولاية عامة: في العلوم والأعمال والأحكام والسياسات والأخلاق ............ إلخ، وبقدر الانقياد لسلطانه الحاكم تكون النجاة، وبقدر التمرد على أحكامه تكون الهلكة.

فإذا لم يعتصم المكلفون بحبل الله الشرعي الحاكم: فسد حالهم: باطنا وظاهرا، غيبا وشهادة، لاضطراب أهوائهم وتفاوت أحكام عقولهم، فلا حكم يفصل النزاع بينها إلا الوحي، فإذا صح النقل بطل قياس العقل القادح في صحته، إذ لا يتصور تعارض بين نقل صحيح وعقل صريح كما سبقت الإشارة إلى ذلك في مواضع عدة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير