تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فالذكاء الفطري إن لم يصحبه زكاء شرعي كان وبالا على صاحبه، وتأمل حال أذكياء العالم من أرباب الصناعات الدقيقة، كيف ضلوا في باب الإلهيات، لما أعرضوا عن علوم النبوات، مع نيلهم أعلى الدرجات في علوم الطبيعيات، فانتحلوا بمقتضى ما فطر عليه الخلق من التأله الضروري، مقالات تردها عقول الأطفال فضلا عن عقول الرجال والأشياخ، فلا بد للقلب من معبود، فإن لم يكن معبوده: إله الرسل والنبيين، كان معبوده ما استحسنه عقله وزينته له الشياطين.

والأهواء الردية أعظم ما يفسد ود أصحاب الطريقة الشرعية، فإنها تحرش بين القلوب فيقع التنافر بينها، فإذا تنافرت القلوب، تداعت الأبدان لنصرتها فيقع القتال انتصارا لها سنةً كونيةً ماضيةً.

يقول أبو العالية، رحمه الله، فيما يرويه عنه ابن بطة، رحمه الله، بإسناده في "الإبانة الكبرى":

"تعلموا الإسلام، فإذا تعلمتم الإسلام فلا ترغبوا عنه يمينا ولا شمالا، وعليكم بالصراط المستقيم، وعليكم بسنة نبيكم، والذي كان عليه أصحابه، وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء". اهـ

ويقول الآجري، رحمه الله، بعد تخريجه هذا الأثر في "الشريعة":

"علامة من أراد الله به خيرا: سلوك هذا الطريق، كتاب الله، وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنن أصحابه رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان، وما كان عليه أئمة المسلمين في كل بلد إلى آخر ما كان من العلماء مثل الأوزاعي وسفيان الثوري ومالك بن أنس، والشافعي، وأحمد بن حنبل، والقاسم بن سلام، ومن كان على مثل طريقتهم، ومجانبة كل مذهب يذمه هؤلاء العلماء". اهـ

فأولئك قد ائتلفت قلوبهم على أصول واحدة بخلاف أهل الأهواء الذين اختلفت قلوبهم على طرائق شتى، فلكل كنيسة بابا، ولكل طريقة شيخ، فالشرائع قد تعددت بتعدد المصادر، وكل يدعي النجاة والخلاص لأتباعه، بلا مستند من نقل صحيح أو عقل صريح، فغايته أن يتعلق بأهداب وحي مبدل، أو نقل باطل لا تقوم به حجة، أو شبهة عقلية تناقض قياس العقل الصريح.

ويقول أبو قلابة، رحمه الله، في معرض بيان شؤم تلك الأهواء التي تسل فيها سيوف البغي والعدوان:

"مَا ابْتَدَعَ رَجُلٌ بِدْعَةً إِلاَّ اسْتَحَلَّ السَّيْفَ".

فتلك سنة جارية إذ يتحرك البدن لنصرة القلب، كما تقدم، فإذا كان القلب على رسم التعصب لمقالة، ولو باطلة لا شاهد لها من نقل أو عقل، إذا كان القلب على ذلك الرسم الرديء، فالبدن تابع له، إذ هو جند يأتمر بأمر الملك، فإذا صلح الملك بصلاح إراداته فلا يريد إلا خيرا، صلح الجند بصلاح حركاته فلا يسعى إلا في تحصيل خير أو رد شر، فجهاده على حد الطلب للفضائل والدفع للنقائص، وفي المقابل إذا فسد الملك إرادة فسد الجند حركة لزوما.

وانطر إلى تاريخ الديانات، لا سيما دين النصارى الذي أجبرت فيه شعوب الإمبراطورية الرومانية بأكملها على انتحال بدعة مجمع نبقية، تحت وطأة القهر والاستبداد، ففرض دين الكاثوليك الملكانيين على سائر أفراد الإمبراطورية فرض المرسوم السياسي النافذ، بلا مستند من نقل أو حتى إجماع من المتآمرين في ذلك المجمع، ولو كان إجماعا على باطل!، ولكنه التحالف بين الدين المحرف الذي يحرص كهنته على استمداد السلطان من سيف الحاكم، والحاكم الجائر الذي يحرص على استمداد رسم الورع والصلاح من تزكية الكاهن، فالمسألة لا تعدو كونها تبادل مصالح على حد ما يقع بين الدول والممالك من التبادل النجاري والتحالف السياسي طلبا لنفع دنيوي عاجل، فإذا قضى كل أربه: انتقضت عرى التحالف، بل ربما انقلب إلى تنافر.

وهذا أمر مشاهد في كثير من الأمم في واقعنا المعاصر، فالدين قد صار تابعا للسياسة إذ قد باع أربابه من العلماء والشيوخ دينهم بعرض زائل يتألفهم به السلطان ليضلوا العامة فيسهل قيادهم ولو إلى ما في هلاكهم!.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير