بالحس الظاهر، فهي مرئية ولها في الشهادة نظائر والأخبار عن حقائقها متواترة، فشتان وصف الخالق الكامل ووصف المخلوق الناقص.
والشاهد مما تقدم: أن كل من أقام عرشا في الأرض على غير رسم النبوات فله من وصف الطغيان نصيب، وبقدر بعده عن الرسالات يكون طغيانه، إذ قد نازع الرب، جل وعلا، استواءه على عرشه، وشيخه ورائده في ذلك إبليس الذي أقام عرشه على الماء وبث سراياه، على حد حديث جابر، رضي الله عنه، مرفوعا: "إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ"، لحرب القدر الشرعي بتزيينه لطواغيت البشر استبدال أهوائهم الردية بأحكام الشريعة العلية.
وقد فطن الهدهد إلى تلك النكتة الدقيقة، فرد الأمر إلى تزيين الشيطان لهم، وما كان له ذلك إلا بأمر كوني نافذ، فقال ذلك الهدهد المسدد: (وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ)، وتشخيص الداء نصف الدواء.
وذلك فرقان ما بين العرش الرحماني الذي تصدر عنه أعدل الأحكام الكونية والشرعية، والعرش الشيطاني الذي لا يصدر عنه إلا ما فيه فساد الأديان والأبدان مع كونه غير خارج عن أمر الرب، جل وعلا، الكوني النافذ، فقد شاء صدوره، بل وجريانه في أمم وجماعات قد صارت على غير رسم النبوات، عقوبة كونية عاجلة بما يقع لها من الفساد في دار الابتلاء وما يؤول إليه أمرها من الهلاك في دار الجزاء، أو لحكمة جليلة تفوق مفسدة مخالفة الأمر الشرعي، فلولا المخالف ما عرف فضل الموافق.
والشاهد أنه: إذا كان له ذلك الوصف، من كمال الاستواء على أعظم المخلوقات، كان له تمام الأمر والنهي، لكمال قدرته وعلمه وحكمته، فـ:
يقدر لا كملوك الدنيا، الذين لا يقدرون على كل ما يريدون، وإن حشدوا من القوى والأجناد ما يسد الأفق!، وكثير منهم قد زالت عروشهم في انقلابات عسكرية مفاجئة فأمسوا ملوكا وأصبحوا صعاليك، فعليهم يصدق قول القائل:
يا راقد الليل مسروراً بأوله ******* إن الحوادث قد يطرقن أسحارا.
ويعلم لا كملوك الدنيا الذين لا يعلمون من أمر ممالكهم إلا ما ترفعه إليهم بطاناتهم التي لا تصدق في قول ولا تخلص في نصح، فولاؤها لمصالحها الآنية ولو أهدرت لأجلها مصلحة الجماعة المسلمة، فكثير من الأوضاع الردية تبقى، لأن بقاءها يحقق لطغمة متنفذة أغراضها، فإذا صلح الحال زالت تلك المصالح والامتيازات، فلتبق إذا تحقيقا لمآرب عشرات، ولو بإهدار مصالح ملايين!.
ويدبر لا كملوك الدنيا، فتدبيره، جل وعلا، من لوازم حكمته البالغة، وحكمته البالغة فرع عن علمه المحيط، بخلاف حكمة ملوك الدنيا التي تصدر عما يرفع إليهم من تقارير!، فعقولهم لا تدرك المصالح على حد التفصيل، ولو بلغت ما بلغت من الذكاء الفطري، فكيف وأغلبهم من أغبياء الأمم الذين يضرب بغباوتهم وسفه عقولهم المثل!، وكيف ومصادر علومهم التي يدبرون بها شئون ممالكهم مصادر تالفة؟!.
ولا يعجل بالعقوبة بل يصبر ويحلم لا كملوك الدنيا الذين يعجلون بالعقوبة حفظا لأمن النظام من الاختراق، فمن بدت منه بادرة خروج عن النسق العام، ولو كان باطلا، بل عين الباطل المناقض للحق، فسعى في التغيير بالأسباب المشروعة بلا إحداث فتن أو قلاقل، فمصيره معروف!.
فهو: جل وعلا الحليم عمن سبق في علمه توبته، الصبور على من سبق في علمه هلاكه على غيه وضلاله.
ولا يبغي نفعا من تشريع الأحكام، إذ هو الغني على حد الإطلاق، فليس كملوك الدنيا الذين يشرعون من الأحكام ما يعود عليهم بالنفع ابتداء، فلهم من الدخل القومي نصيب مفروض!، يصل إلى الثلث في بعض الممالك مع كونهم مئات أو ألوفا في مقابل ملايين من الرعية، ولهم من الحصانات الدبلوماسية ما يغطي على جرائمهم وجرائم ذويهم التي أزكمت روائحها الأنوف.
ولا يشفع عنده إلا من ارتضى، فشرط الشفاعة عنده: الإذن للشافع والرضا عن المشفوع له، بخلاف ملوك الدنيا الذين يقبلون من شفاعات أتباعهم ما لا يرضون على حد الاضطرار استئلافا لقلوب الأتباع فهم إلى عونهم مفتقرون وإلا سقطت عروشهم، وذلك معنى منتف في حق الباري، عز وجل، بداهة.
فالبيان العملي لمعاني استواء الرب، جل وعلا، على عرشه: إفراده جل وعلا بكمال العبودية: تصديقا بخبره وامتثالا لحكمه، فاستوى على عرشه لكمال مِلكه للأعيان ومُلكه وتدبيره للأحوال، فمن ذلك وصف ذاته وصفاته كمالا، فذاته أكمل الذوات، وأوصافه أكمل الأوصاف على حد الديمومة أزلا وأبدا فلا يعتريها ما يعتري صفات البشر من النقص والفساد، من ذلك وصفه فهو: القدير العليم الحكيم فلا يعجزه شيء، بل وسع كل شيء علما وقدرة، من ذلك وصفه فله أوصاف الربوبية الكاملة، فهو أحق بالعبودية الكاملة ظاهرا وباطنا: علما وعملا وحكما وسياسة وأخلاقا وأحوالا، فله كمال العبودية في كل فعل بشري فرعا عن كمال ربوبيته في كل فعل رباني.
وهذا مزج بديع من ذلك الفاضل بين التصورات العلمية والأحكام العملية.
والله أعلى وأعلم.