تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فاستوى على أعظم المخلوقات بأعظم الصفات بعد خلق الأرض والسماوات مئنة من انفراده جل وعلا بالملك التام ومن أعظم صوره: إيجاد السماوات والأرض على هذا النحو البديع فلا مثيل له، المتقن فلا عيب فيه ولا فساد يعتريه، على حد قوله تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ).

فهذا البيان العلمي لهذه الصفة الجليلة.

وأما البيان العملي فهو انفراده، عز وجل، بالملك، على حد انفراده، جل وعلا، بالاستواء على العرش، فلكل ملك عرش، ولا أحد من ملوك الدنيا يرضى بمنازعة غيره له عرشَه، فذلك مما تغضب له نفوسهم، وتحشد له جيوشهم، وكثير منهم لا يأبه إذا انتهك حمى ملك الملوك، جل وعلا، ويغضب إذا رعى أحد حول حماه، وذلك في القياس أعجب العجب!. فإذا لم يرض ذلك لنفسه، فكيف رضيه لربه، عز وجل، ولذلك كان تأويل الاستواء بالاستيلاء من أفسد التأويلات، إذ لا يكون استيلاء إلا بعد منازعة ومغالبة، وذلك معنى منتف في حق كثير من ملوك الدنيا الذين وطدوا أركان عروشهم، ولو بحد السيف، فكيف لا يثبت ذلك للرب، جل وعلا، وهو الذي خضع ملوك وجبابرة الأرض لسلطانه القاهر، وهو مع ذلك حكيم عادل، لا كجبابرة الأرض الذين يفتقرون إلى الحكمة فهم أصحاب قوة وسلطان بلا حكمة، وذلك مظنة كثرة المظالم، فانتفى العدل تبعا لانتفاء الحكمة، فهما من التلازم العقلي بمكان، فإذا ارتفع أحدهما ارتفع الآخر لزوما، فلا عدل بلا حكمة، إذ الحكمة: وضع الشيء في موضعه، وذلك عين العدل، فإذا فشا الظلم، وسدت الأمور إلى غير أهلها ووضعت الأمانات في غير محلها.

فوصف الجبروت إن لم يقترن بالحكمة صار وبالا على صاحبه وعلى غيره، إذ يتلبس من ذلك وصفه لا سيما إن كان قادرا متنفذا، بأجناس من المظالم فاحشة، ولذلك كان اتصاف البشر بذلك الوصف الذي لا يليق بذواتهم الضعيفة المنقادة للأهواء: مظنة فسادهم، بخلاف اتصاف الخالق، عز وجل، به، فذاته القدسية الكاملة محل قابل لقيام أوصاف الجلال ومنها الجبروت، وأوصاف الجمال ومنها الحكمة، فاجتمع في حقه تبارك وتعالى: كمال الذات، وكمال القدرة والجبروت جلالا، فأمر الكوني نافذ لا محالة، وكمال الحكمة والعلم جمالا، فأمره الشرعي على سنن الحكمة جارٍ فرعا عن صدوره ممن له كمال العلم بأعيان وأحوال خلقه على حد التفصيل الجزئي والتقدير الأزلي.

فصار تسلسل المسألة: ملكا تاما يستوي فيه الملك، جل وعلا، بذاته القدسية المتصفة بأوصاف الكمال: جلالا وجمالا، على عرشه الذي هو أعظم المخلوقات مئنة من كمال ملكه، ولكل ملك أوامر بداهة، فعن صفات جلاله تصدر الأوامر الكونية النافذة، وعن صفات جماله تصدر الأوامر الشرعية الحاكمة، فهو الرب المدبر بقدره الكوني النافذ، وهو الإله الحاكم بقدره الشرعي الآمر، على ما اطرد من التلازم الوثيق بين معاني الربوبية الكونية والألوهية الشرعية.

ولذلك كان سليمان عليه السلام حريصا على إزالة عرش بلقيس، رضي الله عنها، إذ كان قبل إسلامها عرشا طاغوتيا، قد تجاوز الجالس عليه حده، فغلا في حق النجوم والأجرام، وجفا في حق مدبرها ومسيرها تبارك وتعالى، فلسان حال الجالس عليه: منازعة الباري، عز وجل، استواءه على عرشه، إذ أقام عرشا في الأرض يقابله، وإن لم يكن على وصفه، فشتان عرش الملك وعرش المملوك، فليس بينهما من الاشتراك إلا الاشتراك في المعنى الكلي الجامع، فإذا قيدا كان كل عرش تبعا لوصف المستوي عليه كمالا أو نقصانا، وهذا أصل سبقت الإشارة إليه مرارا في باب الأسماء والصفات الإلهية فلا يجمعها مع نظائرها في البشر إلا قيد الاشتراك المعنوي، وهو قيد مطلق في الذهن لا يلزم من إثباته: تشبيه أو تمثيل للرب، جل وعلا، بخلقه، إذ لا وجود له خارج الذهن إلا مقيدا، فإذا قيد في الخارج كان تبعا لمقيده كمالا أو نقصانا، غيبا أو شهادة، فأوصاف الرب، جل وعلا، قد بلغت الغاية من الكمال مع كون حقائقها غير مدركة بالحس الظاهر فالشيء لا يدرك إلا برؤيته أو رؤية نظيره أو خبر صادق عنه، وكل ذلك منتف في حق الرب، جل وعلا، بداهة، وفي المقابل: أوصاف المخلوق: أوصاف يعتريها النقص والفساد مع كونها مدركة

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير