تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فلما صدر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم قد كان أدركه السن حتى لا يقدر أن يوافي معهم المواسم، فكانوا إذا رجعوا إليه حدثوه بما يكون في ذلك الموسم، فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عما كان في موسمهم، فقالوا: جاءنا فتى من قريش، ثم أحد بني عبد المطلب، يزعم أنه نبي يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا.

قال: فوضع الشيخ يده على رأسه ثم قال: يا بنى عامر هل لها من تلاف؟ هل لذناباها من مطلب؟ والذى نفس فلان بيده ما تقولها إسماعيلى قط، وإنها لحق، فأين رأيكم كان عنكم! ". اهـ

فالنبي في غنى عن أتباع هذا وصفهم، إذ ليس لهم أرب في الجزاء الأخروي، لدنو هممهم وقصور أنظارهم، فلا يحمل عبء هذه الرسالة إلا أتباع على رسم: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ). وليس جزاء هذا الأمر مما ينال عادة في دار الابتلاء، بل قد مضت أجيال دون أن تر من قوله تعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ): أثرا ولم يضرها ذلك، إذ فعلت ما أمرت به، فحسب الممتثل لأمر الشرع أن يرجو رحمة ربه، إذ قد أحسن الظن بالرب، جل وعلا، فأحسن العمل.

فاقتضت حكمة الرب، جل وعلا، أن يكون أعدى أعداء الرسالة قريش التي نشأ فيها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فعرفت من كريم خلاله ما يحمل الناظر في حاله شخصا وأخبار وأحكام رسالته نوعا، على التصديق، لا سيما إن كان مخالطا له عالما بسره وعلنه، ولكنها صارت إلى النقيض من ذلك فكذبته وآذته وصدت العرب عن رسالته بل وسعت في إخراجه وقتله، وكان من أشدها وطأة عليه عمه المخذول: أبو لهب، فكان ذلك من عظم الابتلاء بمكان فلا أصعب على الرسول أو الداعي من تكذيب عشيرته الأقربين الذين هم مظنة صيانته، فإذا بهم قد صاروا حربا عليه، فظلمهم على حد قول طرفة:

وظلم ذوي القربى أشد مرارة ******* على النفس من وقع الحسام المهند

وذلك من أعظم الابتلاءات التي يلقاها السالك طريق الهداية في مبدئه، فلا بد أن يبتلى بذي رحم فاسد ينغص عليه حياته، ويضع في طريقه إلى الله، عز وجل، العثرات، بل ربما استعدى عليه أولياء الشيطان من شرار بني آدم ليستنزوله عن درجة الهداية إلى دركة الغواية، وهذا أمر مشاهد في واقعنا المعاصر على حد قد بلغ التواتر، فالسالكون قد ساروا في طريق موحش لا أنيس فيه ولا جليس، بل قد تواصى من حولهم بحربهم ووضع العقبات الكؤود أمامهم، وفي حال كهذه تصبح العزلة على حد الأنس بالله، عز وجل، خيرا من جليس السوء الذي يفسد ديانة مخالطه بالترغيب في المنكرات تارة، وبالترهيب لترك الهداية تارة أخرى بل تارات!.

ومن لم يستعن بالله، عز وجل، على سلوك تلك المفازة المقفرة، ولم يصبر على ما يعترضه فيها من عقبات، وما يصله ممن حوله من إذايات في النفس والعرض والمال، ولم يتزود لذلك السفر الطويل بأزواد التقوى العلمية والعملية، من لم يكن على ذلك الوصف: فلا يسر ابتداء إذ مآله إلى انقطاع ونكوص إلا أن يشاء الله، عز وجل، له الثبات والوصول، ولكن السنة الكونية جارية بانقطاع من لم يتحر أسباب الثبات الشرعية والكونية، ولذلك كان من دعاء أهل الإيمان في أم الكتاب: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ): دلالة على الطريق وإلهاما للسير عليه، وتثبيتا فلا ننقطع أو ننكص حتى نلقاك مقبلين غير مدبرين، فتلك أعظم كرامة كما حدها المحققون من أهل العلم.

ولم يكن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في ذلك بدعا من الرسل بل قد ابتلي الخليل عليه السلام بأبيه، فهدده بالرجم: (أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا)، فاعتزله الخليل عليه السلام: (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا). فجاء ثواب اعتزال أهل

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير