ومع ذلك، فلم يكد القرن السابع عشر يستهل حتى كان لنظرية كوبرنيق وما أضاف إليها برونو وجاليلو آثار واسعة، ظلت راسخة في الفلسفة الأوروبية عامة، فقد أفقدت الكثيرين ثقتهم في الكنيسة وأدت إلى التشكيك في سلامة معلوماتها، وهو أثر له أهميته القصوى، كما أنها أعطت الأولوية للتجربة والبحث العقلي في الوصول إلى الحقائق. وإضافة إلى ذلك قدمت إيحاءات فلسفية جديدة، فقد هزت فكرة الثبات المطلق التي كانت مسيطرة على العقلية الأوربية وحطت كذلك من قيمة الإنسان ومكانته في الوجود – أو هكذا تخيل الناس آنذاك -.
وفي القرن السابع عشر تبلور النزاع واتخذ شكلاً جديداً: فقد أصبح النزاع بين مرقب جاليلو وحجج الكنيسة الواهية نزاعاً بين النص الذي تعتمد عليه أدلتها وبين العقل والنظر الذي استند إليه أصحاب النظريات الجديدة.
وثار العلماء ودعاة التجديد مطالبين بتقديس العقل واستقلاله بالمعرفة بعيدا عن الوحي، ولم يجرؤ دعاة المذهب العقلي أول الأمر على إنكار الوحي بالكلية، بل جعلوا لكل من الطرفين دائرة خاصة يعمل فيها مستقلاً عن الآخر". اهـ
أي أنها باختصار: كانت طلائع ثورة إلحادية عارمة اجتاحت أوروبا بعد ذلك، فكفرت بلسان الحال، بل بلسان مقال كثير من مفكريها ومنظريها، بمقررات الكنيسة، وآمنت بالعقل إيمانا مطلقا، فقابلت غلو الكنيسة في إهمال العقل بغلو مضاد في تقديسه وجعله مصدر الوحي:
الديني فكفرت بالله، عز وجل، بل أنكرت وجوده في كثير من الأحيان لأن عقولها، بزعم أصحابها من الزمنى أصحاب العاهات الفكرية، لا تدل عليه.
والتشريعي، فحللت ما شاءت ولو أجمعت العقول والفطر على قبحه ولا أدل على ذلك جماعات الشواذ التي صارت في السنوات الأخيرة: جماعات ضغط يخطب ودها ساسة الغرب حتى صرح أوباما أخيرا في أحد مؤتمراتهم بأنه يسعى جاهدا إلى إلغاء القانون الذي يمنع الشواذ في الجيش الأمريكي من الاستعلان بشذوذهم، فهو لا يمنع التحاقهم بالجيش ابتداء، ولكنه فقط: يمنع ممارستهم الشذوذ علنا في قواعده وثكناته!، وحرمت ما شاءت ولو كان جاريا على مقتضى الشرائع والأعراف المعتبرة.
والسياسي فلعبة السياسة تدار بقواعد أرضية محضة أعطت المجتمعات حق السيادة المطلقة في تشريع وسن ما شاءت من القوانين تحت قباب البرلمانات ولو كانت على خلاف ما قررته النبوات، إذ لا معرفة لهم بها أصلا.
والاقتصادي والعسكري ................... إلخ.
ومع ذلك انتحلت النصرانية تلك المنجزات لتخدع بها السذج من أبناء الأمم الأخرى، فهي: منجزات نصرانية، وهي عند التحقيق: منجزات العلمانية المادية الملحدة التي نجحت فيما فشلت فيه الكنيسة من اكنشاف سنن الكون وتوظيفها لخدمة الأبدان، وإن فشل كلاهما في التزام سنن الشرع، فلم يقدما للأرواح أي غذاء نافع فمن أوهام التثليث إلى ضياع الإلحاد.
واغتر من اغتر من جهلة المسلمين بتلك الدعاية، وقويت عنده الشبهة بما كان ولا زال العالم الإسلامي يعاني منه من تخلف مدني، فأمريكا وأوروبا قد غزت الفضاء، ونحن نركب قطارات تأنف البهائم في أوروبا من ركوبها فضلا عن الآدميين، فضلا عن طعامنا الذي تأنف ذات البهائم من تناوله، ومياه المجاري التي نشربها وهي لا تصلح حتى لري الأرض الصماء البكماء!، فقياس العقل في غياب الشرع يقول: من يمتلك أدوات المدنية ولو كان على خلاف الطريقة الشرعية فهو الأولى بالاتباع، فمنهجه قد حقق له السيادة، فإذا سرنا على دربه سدنا مثله، وقد سرنا فعلا عن دربه، فاستولى العلمانيون على مراكز صنع القرار في العالم الإسلامي، ومع ذلك لم نغز الفضاء غزوهم، بل لا زلنا نتسول طعامنا من موائدهم، وإن شئت الدقة فقل من: فتات موائدهم، فتلك أبرز منجزات العلمانية التي تلقي باللائمة دوما على الأصولية الإسلامية!، فهي سبب كل بلية!.
¥