ضمان سيطرته على الآخرين بسيف القهر والإجبار.
وتلك المنجزات عند التحقيق: لباس زور ترتديه النصرانية لتستر سوآتها الفكرية، فإن أوروبا لم تنهض تلك النهضة المدنية إلا بعد نبذ تعاليم ومقررات الكنيسة البالية التي صادرت بها كل فكر حر، ولو كان تجريبيا لا دخل له في تعاليم اللاهوت فهي التي أحرقت كتاب "كوبرنيق" عن حركات الأجرام السماوية لأنه أتى بتصور يخالف تصور الكنبسة مع أن البحث: علمي تجريبي للعقل فيه دور، إذ لو كان ذلك المسطور في أناجيلهم حقا لصدقه العقل الصريح، فإن العقل الصريح لا يناقض النقل الصحيح، بل يناقض النقل المبدل الذي نالته أيدي الأحبار والرهبان بالكتمان والتحريف، فكان رد فعل الكنيسة قاسيا لئلا نتهار سيادتها تحت وطأة ضربات الحركات الإصطلاحية والعلمية الحرة التي تأثرت بالعقل المسلم في مدارس الأندلس، بل تلقت عنه العلوم التي نقضت بها مقررات الكنيسة، وذلك مما يعترف به أي دارس منصف للتاريخ وهو منطوق لسان كثير من الغربيين المعاصرين.
ولم تكتف الكنيسة بحرق الأفكار بل تعده إلى حرق الأجساد كما وقع لـ: "برونو" الذي انتصر لنظرية كوبرنيق، ولاقى جاليليو بعده ما لاقى من اضطهاد الكنيسة.
يقول صاحب رسالة "العلمانية: نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة"، حفظه الله وسدده وأتم شفاءه، يقول في معرض بيان تلك المأساة الفكرية في ص150_153:
"إن النظرية التي هوت الكنيسة لأول مرة هي نظرية كوبرنيق (1543) الفلكية، فقبل هذه النظرية كانت الكنيسة المصدر الوحيد للمعرفة وكانت فلسفتها تعتنق نظرية بطليموس التي تجعل الأرض مركز الكون وتقول بأن الأجرام السماوية كافة تدور حولها.
فلما ظهر كوبرنيق بنظريته القائلة بعكس ذلك كان جديراً بأن يقع في قبضة محكمة التفتيش، ولم ينج من ذلك لأنه كان قسيساً، بل لأن المنية أدركته بعد طبع كتابه بقليل.
فلم تعط المحكمة فرصة لعقوبته، إلا أن الكنيسة حرمت كتابه "حركات الأجرام السماوية" ومنعت تداوله وقالت بأن ما فيه هو وساوس شيطانية مغايرة لروح الإنجيل.
وظنت أن أمر هذه النظرية قد انتهى، ولكن رجلاً آخر هو "جردانو برونو" بعث النظرية بعد وفاة صاحبها فقبضت عليه محكمة التفتيش وزجت به في السجن ست سنوات فلما أصر على رأيه أحرقته سنة 1600م وذرت رماده في الهواء وجعلته عبرة لمن اعتبر!.
وبعد موته ببضع سنوات كان "جاليلو" قد توصل إلى صنع المرقب "التلسكوب" فأيد تجريبياً ما نادى به أسلافه نظرياً فكان ذلك مبرراً للقبض عليه ومحاكمته و: "قضى عليه سبعة من الكرادلة بالسجن مدة من الزمان وأمر بتلاوة مزامير الندم السبعة مرة كل أسبوع طوال ثلاث سنوات"، ولما خشي على حياته أن تنتهي بالطريق التي انتهى بها برونو أعلن ارتداده عن رأيه وهو راكع على قدميه أمام رئيس المحكمة قائلاً:
"أنا جاليلو وقد بلغت السبعين من عمري سجين راكع أمام فخامتك، والكتب المقدس أمامي ألمسه بيدي، أرفض وألعن وأحتقر القول الإلحادي الخاطئ بدوران الأرض"!، وتعهد مع هذا بتبليغ المحكمة عن كل ملحد يوسوس له الشيطان بتأييد هذا الزعم المضلل.
هؤلاء هم زعماء النظرية وهذا هو موقف الكنيسة منهم وليس غريباً أن تضطهدهم وتحارب أفكارهم، فإن أفكارها لا تعيش إلا في الظلام، وهي لم تستعبد الناس بالحق، بل الخرافة .. ولكن الغريب هو أدلتها الدينية التي ساقتها لتكذيب النظرية – وما كان ليضير الدين في شيء أن تصدق أو تكذب.
قالت الكنيسة: إن الأرض يجب أن تكون مركز الكون الثابت لأن الأقنوم الثاني – المسيح – تجسد فيها، وعليها تمت عملية الخلاص والفداء، وفوقها يتناول العشاء الرباني، كما أن التوراة تقول: "الأرض قائمة إلى الأبد والشمس تشرق والشمس تغرب وتسرع إلى موضعها حيث تشرق " أما كروية الأرض وسكنى جانبها الآخر فنفتها الكنيسة بحجة أن: "من خطل الرأي أن يعتقد الإنسان بوجود أناس تعلو مواطئ أقدامهم على رؤوسهم وبوجود نباتات وأشجار تنمو ضاربة إلى أسفل، وقالت أنه لو صح هذا الزعم لوجب أن يمضي المسيح إلى سكان الوجه الآخر من الأرض ويموت مصلوباً هناك من أجل خلاصهم"!.
¥