تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

المحل من عطب، فلا تقارن تلك النشوة الضئيلة بتلك المفسدة العريضة، ولكنه، كما تقدم، نتاج قياس فاسد مستنده الهوى، والهوى يصادم النقل الصحيح والعقل الصريح بداهة، فاستساغ بذلك القياس الفاسد تقديم لذه هذا وصفها من الضآلة والنقص، على لذة باقية فهي على حد الديمومة، فطمأنينة قلب في دار الابتلاء يفتقدها غالب أهل الأرض لا سيما في الأعصار المتأخرة التي استرقت فيها الآلة الميكانيكية النفس البشرية فصيرتها حيوانية تلهث لتحصيل قوت الأبدان وملذاته، وتزهد في قوت الأديان مع ما له في النفس من حلاوة لا يجدها إلا أهل الإيمان فلذاته أضعاف لذات البدن التي يلهث الأولون لتحصيلها، بل لا وجه، عند التحقيق، للمقارنة بينهما، فعمار الأديان على حد قوله تعالى: (لَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)، وعمار الأبدان على حد قوله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)، وتلك اللذة الباقية مع ديمومتها، وهو ما يجعلها منتهى أمل كل العقلاء، ولو كانت ضئيلة على حد: قليل دائم خير من كثير منقطع، هي مع تلك الديمومة: أعظم من اللذة الطارئة، فهي أشرف من جهة الكيف والكم، ولو كانت أدنى مع ما لها من وصف التجدد والاستمرار ما عدل عنها العقلاء، على ما سبق من قياس العقل الصريح الذي يقتضي: تقديم القليل الباقي على الكثير الفاني، فكيف وهي قد جمعت الحسنيين: شرف القدر وديمومة الزمان؟، فهي على حد: (أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا)، فيتجدد نعيمها على حد الأبدية، فلا انقطاع للمفعولات في الأبد، إذ تسلسلها في الأبد: واجب، فيتجدد لأهل النعيم نعيمهم، ويتجدد لأهل العذاب عذابهم، على حد السرمدية، وذلك أصل يفزع إليه في تسكين النفس عن مباشرة معاص كثيرة يزينها الشيطان بتضخيم جانب اللذة فيها وتقليل جانب الألم مع كونه أعظم وأوقع في النفس، فليس له إلا إفساد التصور العلمي لمباشرها، فإذا فسد التصور: فسدت الإرادة، فتحركت النفس إلى تحصيل ما يضرها لجهلها بالعواقب والمآلات، ولا يكون ذلك إلا بالإعراض عن وحي النبوات، فهو العاصم لها من الزلات.

فليست كل حركة نفسانية أو بدنية محمودة في ذاتها، بل من الحركات ما يحاكي حركات البهائم!، على حد ما نرى في الرقص المحدث الذي يشبه فاعله المجانين أو المصروعين، فكيف يكون ذلك أثرا من آثار الديانة، إذ قد غلب على صاحبه الوجد!، والصحيح أنه قد غلب على صاحبه الخطل وقلة العقل، فليس ذلك من الأحوال المحمودة التي يدعيها أرباب الطريق خصوصا، أو أرباب الغناء عموما، فكل يدعي لذة موهومة يسعى إلى تحصيلها بالغناء والرقص!، على حد ما يروج له أهل الباطل، إذ قد صار الغناء والرقص عند بعضهم دواء لعلاج التطرف والتشدد!.

يقول ابن تيمية، رحمه الله، في معرض بيان الحركات النفسانية والبدنية الصادرة من الأصوات المسموعة:

"وأما تحرك النفوس عن مجرد الصوت فهذا أيضا محسوس فإنه يحركها تحريكا عظيما جدا بالتفريح والتحزين والإغضاب والتخويف ونحو ذلك من الحركات النفسانية كما أن النفوس تتحرك أيضا عن الصور بالمحبة تارة وبالبغض أخرى وتتحرك عن الأطعمة بالبغض تارة والنفرة أخرى فتحرك الصبيان والبهائم عن الصوت هو من ذلك لكن كلما كان أضعف كانت الحركة به أشد فحركة النساء به أشد من حركة الرجال وحركة الصبيان أشد من حركة البالغين وحركة البهائم أشد من حركة الآدميين فهذا يدل على أن قوة التحرك عن مجرد الصوت لقوة ضعف العقل فلا يكون في ذلك حمد إلا وفيه من الذم أكثر من ذلك وإنما حركة العقلاء عن الصوت المشتمل على الحروف المؤلفة المتضمنة للمعاني المحبوبة وهذا أكمل ما يكون في استماع القرآن.

وأما التحرك بمجرد الصوت فهذا أمر لم يأت الشرع بالندب إليه ولا عقلاء الناس يأمرون بذلك بل يعدون ذلك من قلة العقل وضعف الرأي كالذي يفزع عن مجرد الأصوات المفزعة المرعبة وعن مجرد الأصوات المغضبة". اهـ

"الاستقامة"، ص269.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير