فتحرك النفس في هذا الباب مئنة من ضعف العقل، ولذلك يصبر البالغ عنه ما لا يصبر القاصر، لكمال عقل الأول ونقصان عقل الثاني، ولذلك تجد كثيرا من الأطفال إذا سمع الغناء أو الموسيقى تحرك بحركات مخجلة، ذكرا كان أو أنثى، وغاية ما يعتذر به في ذلك الموقف المحرج أن يعتذر بنقصان عقله، وهذا اعتذار صحيح، ولكنه لا يسوغ ترك الطفل ينشأ على سماع تلك الأصوات بحجة أنه صغير لا يدرك، مع أن آلته الذهنية في تلك المرحلة العمرية تكون أنشط ما يكون فتختزن ذاكرته من الصور المشاهدة والأصوات المسموعة ما لا تختزنه ذاكرة الكبير الذي كلَّ ذهنه بتوالي المعلومات عليه، فذاكرة الصغير أنشط وأقوى وأوسع بكثير من ذاكرة الكبير فـ:
ينشأ ناشئ الفتيان منا ******* على ما كان عوده أبوه.
وقد حكى لي أحد أقربائي في معرض الإنكار على صديق لنا، حكى لي: ما ينشئ عليه ابنه من النظر والاستماع إلى الأغاني المصورة مع مع ما فيها من صخب وخلاعة، إذ يتحرك الطفل ولما يزل غير مدرك، وإن اختزنت ذاكرته تلك المواد الفاسدة، يتحرك حركات هيستيرية تعبيرا عن سعادته بما حرك نفسه من الأصوات والصور، ولو كانت حركة فاسدة، فلا آلة له مكتملة تميز بين الحسن والقبيح، فالخلل كائن في تصور الأب الذي يقدم بنفسه هذه المادة الفاسدة لابنه برسم التسلية وإدخال السرور عليه كاي أب يسعى لإسعاد طفله، فيقتله من حيث أراد أن يحييه، بتقديم تلك اللذة العاجلة التي يعقبها من المفاسد والآلام ما يعانيه الأب بعد ذلك من سوء تصرفات ابنه، وهذا أمر لم يسلم منه غالب الاباء في الأعصار المتأخرة فلا يجني الأب من ابنه في الكبر إلا ما زرعه فيه في الصغر.
وقل مثل ذلك في ميل النساء إلى الغناء فهو من أعظم فتنهن، إذ عقولهن أضعف من عقول الرجال فيتعلقن بأصوات وصور المخنثين من المغنيين، كما هو مشاهد من حال كثير من نساء المسلمين ثيبات كن أو أبكارا.
فالقاعدة مطردة إذ بضعف العقل يزداد تأثر النفس وتحركها استجابة للأصوات المزعجة.
ويقول، رحمه الله، في معرض بيان الحرارة التي تتولد في النقس من هذا السماع:
"قال، (أي أبو القاسم القشيري، رحمه الله، صاحب الرسالة القشيرية التي انتصر فيها لسماع أهل الطريق المحدث)، وسئل أبو يعقوب النهرجوري عن السماع فقال: حال يبدي الرجوع إلى الأسرار من حيث الإحراق.
قلت، (أي ابن تيمية رحمه الله)، وهذا وصف لما يعقب السماع من الأحوال الباطنة وقوة الحرارة والإحراق والوجودية وهذا أمر يحسه المرء ويجده ويذوقه لكن ليس في ذلك مدح ولا ذم إذ مثل هذا يوجد لعباد المسيح والصليب وعباد العجل وعباد الطواغيت ويوجد للعشاق وغير ذلك فإن لم تكن هذه الأحوال مما يحبها الله ورسوله لم تكن محمودة ولا ممدوحة.
قال أبو القاسم وقيل: السماع لطف غذاء الأرواح لأهل المعرفة.
وهذا القول لم يسم قائله ولا ريب أن السماع فيه غذاء وقد قيل إنما سمى الغناء غناء لأنه يغني النفس لكن الأغذية والمطاعم منها طيب ومنها خبيث وليس كل ما استلذه الإنسان لحسنه يكون طيبا فإن أكل الخنزير يستلذه آكله وشارب الخمر يستلذها شاربها.
ومما يبين ذلك أن سماع الألحان يتغذى به أهل الجهل أكثر مما يتغذى به أهل المعرفة كما يتغذى به الأطفال والبهائم والنساء وكما يكثر في أهل البوادي والأعراب وكل من ضعف عقله ومعرفته كما هو مشهود.
فأما السماع الشرعي فلا، إنه غذاء طيب لأهل المعرفة كما أخبر الله بذلك في قوله: (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق) ". اهـ
"الاستقامة"، ص290_291.
فهي مشاعر إنسانية مشتركة يجدها سائر العقلاء، بل تجدها البهائم العجماوات!، إذ النشوة بورود المهيج أمر يجده كل حي حساس في نفسه، ولذلك كان للألحان تأثير في البهائم، إذ المحل قابل للتهييج بأصوات منغمة مرتبة، فليس لأهل الوجد به اختصاص، بل من لم يؤت العقل، ولم يكلف بالشرع يشاركه هذا الأمر. ولا ينكر متأمل لأحوال النصارى وسائر أصحاب المقالات المحدثة ما يجدونه من طرب ونشوة تضطرب لها القلوب والأبدان، فهي غذاء فاسد صادف محلا خاليا فتمكن، فأحدث من اللذة العاجلة ما زهد صاحبه في الغذاء النافع بمنزلة من اغتذى بغذاء خبيث، فحصلت له لذة الشبع العاجلة ولو أعقبها
¥