ثم إن أبا القاسم، (القشيري، رحمه الله، صاحب الرسالة المعروفة كما تقدم)، وطائفة معه تارة يمدحون التقرب إلى الله بترك جنس الشهوات وتارة يجعلون ذلك دليلا على حسنه وكونه من القربات وهذا بحسب وجد أحدهم وهواه لا بحسب ما أنزل الله وأوحاه وما هو الحق والعدل وما هو الصلاح والنافع في نفس الأمر
والتحقيق أن العمل لا يمدح ولا يذم لمجرد كونه لذة بل إنما يمدح ما كان لله أطوع وللعبد أنفع سواء كان فيه لذة أو مشقة قرب لذيذ هو طاعة ومنفعة ورب مشق هو طاعة ومنفعة ورب لذيذ أو مشق صار منهيا عنه". اهـ
بتصرف من: "الاستقامة"، ص247، 248.
وإنما تقع الشبهة للناظر بالنظر إلى حال أناس قام بهم من داعي الصلاح ما اغتر به، فقد صادف السماع في قلب ذلك السالك إشارة صالحة، فهو الواحد الناجي من الألف الهالكين!، فظن أن ذلك عام كلي في حق جميع السالكين، مع أنه خاص جزئي في حق ذلك السالك بعينه فلا يقاس عليه، إذ أحكام الديانة، كما تقدم، تؤخذ من الشرائع الكلية لا الوقائع الجزئية، فحال ذلك السالك فتنة له في نفسه إذ يظن أن ما يجده من اللذة دليل على صحة مسلكه، وإنما غايته أن يكون متأولا فيثاب على حسن قصده لا على فساد عمله، وهو مع ذلك، فتنة لغيره ممن يعرف الحق بالرجال، فأحوال الشيوخ والسالكين دليله، إذ بضاعته من أدلة الشرع المعتبرة مزجاة، وفساد ونقص العمل، كما تقدم، مرارا، إنما يكون فرعا عن فساد ونقص العلم، فمن كان بأحكام الشرع أعلم، كانت قدمه في طريق العمل أرسخ.
يقول ابن تيمية، رحمه الله، في "اقتضاء الصراط المستقيم":
"وقد علم أن العبادة المشتملة على وصف مكروه قد تغفر تلك الكراهة لصاحبها، لاجتهاده أو تقليده، أو حسناته أو غير ذلك. ثم ذلك لا يمنع أن يعلم أن ذلك مكروه ينهى عنه وإن كان هذا الفاعل المعين قد زال موجب الكراهة في حقه.
فمن الخطأ جعل الإجابة للدعاء والعبادة عند القبور ونحوها دليلاً على استحسانها
ومن هنا يغلط كثير من الناس، فإنهم يبلغهم أن بعض الأعيان من الصالحين عبدوا عبادة، أو دعوا دعاء، ووجدوا أثر تلك العبادة، وذلك الدعاء فيجعلون ذلك دليلا على استحسان تلك العبادة والدعاء، ويجعلون ذلك العمل سنة، كأنه قد فعله نبي، وهذا غلط، لما ذكرناه. خصوصا إذا كان ذلك العمل إنما كان أثره بصدق قام بقلب فاعله حين الفعل، ثم يفعله الأتباع صورة لا صدقا، فيضرون به لأنه ليس العمل مشروعا فيكون لهم ثواب المتبعين، ولا قام بهم صدق ذلك الفاعل الذي لعله بصدق الطلب وصحة القصد يكفر عن الفاعل.
ومن هذا الباب ما يحكى من آثار لبعض الشيوخ، حصلت في السماع المبتدع، فإن تلك الآثار، إنما كانت عن أحوال قامت بقلوب أولئك الرجال، حركها محرك كانوا في سماعه إما مجتهدين، وإما مقصرين تقصيرا غمره حسنات قصدهم، فيأخذ الأتباع حضور صورة السماع وليس حضور أولئك الرجال سنة تتبع، ولا مع المقتدين من الصدق والقصد ما لأجله عذروا، أو غفر لهم، فيهلكون بذلك.
وكما يحكى عن بعض الشيوخ، أنه رؤي بعد موته، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: أوقفني بين يديه وقال لي: يا شيخ السوء، أنت الذي كنت تتمثل في بسعدي ولبني؟ لولا أني أعلم أنك صادق لعذبتك.
فإذا سمعت دعاء، أو مناجاة مكروهة في الشرع قد قضيت حاجة صاحبها فكثير ما يكون من هذا الباب. ولهذا كان الأئمة، العلماء بشريعة الله، يكرهون هذا من أصحابهم وإن وجد أصحابهم أثره، كما يحكى عن سمنون المحب قال: وقع في قلبي شيء من هذه الآيات، إلى دجلة فقلت: وعزتك لا أذهب حتى يخرج لي حوت. فخرج حوت عظيم، أو كما قال. قال فبلغ ذلك الجنيد، فقال: كنت أحب أن تخرج إليه حية فتقتله!.
وكذلك حكي لنا، أن بعض المجاورين بالمدينة، جاء قبر النبي صلى الله عليه وسلم فاشتهى عليه نوعا من الأطعمة، فجاء بعض الهاشميين إليه، فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث لك ذلك، وقال لك أخرج من عندنا، فإن من يكون عندنا لا يشتهي مثل هذا. وآخرون قضيت حوائجهم، ولم يقل لهم مثل هذا، لاجتهادهم أو تقليدهم، أو قصورهم في العلم، فإنه يغفر للجاهل ما لا يغفر لغيره ............ ولهذا عامة ما يحكى في هذا الباب، إنما هو عن قاصري المعرفة، ولو كان هذا شرعا ودينا لكان أهل المعرفة أولى به. ولا يقال: هؤلاء لما نقصت معرفتهم ساغ لهم ذلك، فإن الله لم يسوغ هذا لأحد، لكن قصور المعرفة قد يرجى معه العفو والمغفرة ". اهـ
وذلك من رحمة الرب، جل وعلا، بعباده، إذ غفر لهم لما قام بقلوبهم من إرادات صالحة، وإن لم تكن أعمالهم صالحة، فحسن نواياهم عذر لهم لا إقرار لهم على ما زلوا فيه من العلم أو العمل، وهذا أصل نفيس يعتذر به عن علماء وعباد الأمة ممن لهم لسان صدق، فيعتذر عن القائل ولا يعتذر عن القول، وليس القائل براج عصمة، فهو كسائر المكلفين، يصيب ويخطئ.
وأما إذا جرى الغناء مجرى الشهوة، (وذلك الشق الثاني من القسمة التي صدر بها الكلام فهو إما أن يجري مجرى الديانة كما يقع من بعض العباد، أو يجري مجرى الشهوة كما يقع من عامة الفساق)، فهو مفسد للإرادة والعمل، فصاحبه على حد الفجور، كما أن المتدين به على حد البدعة، فهذا فساده عملي، وذاك فساده علمي.
وتلك مسالك دقيقة، فالقلوب تتفاوت في قبول الواردات عليها من الأذواق والمواجيد تفاوتا لا يدركه إلا بارئها، عز وجل، ولكل حال، ولكل وجد وذوق، ولكل عقل، فإذا رد الأمر إليها، فلكل شرع!، فوجب الاحتكام عند وقوع النزاع بين العقول أو الأذواق إلى محكم الآيات على حد قوله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا).
والله أعلى وأعلم.
¥