تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فكذلك الشرائع قد تحدث في النفوس أو الأبدان آلاما جزئية، ولعل الحدود الشرعية خير شاهد على ذلك، إذ بها تتلف أعيان بعض المكلفين، كما في حد القصاص، أو أجزاء منها، كما في حد السرقة أو الحرابة، ولكن تلك الآلام تقي الجماعة المسلمة، بل تقي الجاني نفسه من آلام أعظم باعتبار مآلاتها، فلو ترك القاتل لقتل ثانيا وثالثا، فأفنى من أفراد الجماعة ما يزيد عن الواحد الذي رامت استبقاءه وإن كان مستحقا للإتلاف، فنظرت إلى مفسدة إتلافه بعين الاعتبار، وتلك نظرة قاصرة إلى الحال، ونظرت إلى مفسدة تركه ليقتل أكثر بعين الإهمال، وتلك نظرة قاصرة عن المآل، فكلتا النظرتين: خطأ، لأنهما صدرتا عن هوى يستحسن ويستقبح بلا ضابط من وحي يحكم ويفصل النزاع بين أصحاب الأهواء المتنازعة عند وقوع الاختلاف، وهو كائن لا محالة، إذا لم تكن نبوة وكتاب، فكلٌ صاحب دعوى تفتقر إلى برهان، فعقل فلان يستحسن ما لا يستحسنه عقل فلان من الأحوال الظاهرة، وذوق فلان يشتهي ما لا يشتهيه ذوق فلان من الأحوال الباطنة، وسياسة دولة ترى المصلحة العليا في كذا وكذا، ودولة تجاورها ترى المصلحة العليا على الضد من ذالك، فلا بد من بينة على تلك الدعاوى المجردة، وأعظم بينة: ما استند إلى الوحي المعصوم الذي يعصم العقول من الزلل، وهو مع ذلك، لا ينقض قانونها، وإنما يزكيه، وإن بدا لأصحاب القياس الفاسد، بادي الرأي، خلاف ذلك، فالخطأ في قياسه لا يوجب تعميمه في تسلط يشبه إلى حد كبير تسلط أصحاب المواجيد والأذواق، فليس لشيخ أو سالك أن يحمل الناس حملا على ما وجده في عبادة، ولو مبتدعة من لذة، ولو كانت حقيقية، فتلك جزئية لا يصح عقلا تعميمها لتصير كلية بلا برهان إلا ذوق إنسان غير معصوم بالإجماع فليست مواجيده شرائع تلتزم، فذلك، إن وقع منه، كما يقع من غلاة أصحاب الطرق في إلزام أتباعهم بهيئات شرعية معينة لم يرد عليها دليل من الوحي بشطريه، ذلك إن وقع هو عين الطغيان والاستبداد الشرعي الذي جاءت الرسالة الخاتمة بنقضه، فردت الأمر كله إلى الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بوصفه المبلغ عن ربه، على حد قوله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)، فكذلك صاحب القياس العقلي الفاسد: لا يلزم من وجدانه نوع مصلحة متوهمة أو حتى جزئية في قياسه أن يعمم ليصير قانونا مطردا على ذات الحد من الطغيان، فليس عقله بنبي معصوم يلزم بقية العقول اتباعه دون سؤاله عن الدليل أو وجه الحكمة إذ قد فوضت الأمر إليه ابتداء بإقرارها بعصمته، وكذلك صاحب السياسة الجائرة الذي يرى المصلحة العليا، بزعمه، في كذا وكذا من السياسات الجائرة، وإن كانت على حد المضادة للشرع المنزل، فيحمل الناس عليها بسيف القهر حملا، في صورة من أبرز صور الطغيان المعاصر، وليس له في ذلك مستند من نقل أو حتى عقل، فهو يروم، على حد ما تقدم من قصور تصور العقل البشري، يروم تحصيل مصلحة عاجلة من إعانة أو تثبيت أو توريث لملك زائل، وإن أدى ذلك إلى وقوع مفاسد عامة آجلة، وربما كان كثير منها عاجلا غير آجل، فالمصلحة الجزئية الخاصة تعتبر وتسن لها القوانين الجائرة مع قصورها على فرد أو أفراد، والمصلحة الكلية العامة تهدر إن تعارضت معها، على حد ما نرى من القوانين الملوكية التي تسن خصيصا لتمكين الملوك من ظلم وقهر الرعية استبقاء للعروش والرياسات فتلك همة الملوك، واستبقاء للمكاسب والمآكل فتلك همة حواشي السوء التي تحيط بالعروش إحاطة السوار بالمعصم، ولكل قدره فرعا عن همته، فقلوب بعرش الرب، جل وعلا، معلقة، وقلوب بعروش العباد قد علقت، فلا تسأل عن انشراح صدور وطمأنينة قلوب الطائفة الأولى، وإن كانت خلوا من أعراض الدنيا، ولا تسأل عن حرج صدور ووحشة قلوب الطائفة الثانية، وإن كانت متخمة باللذات الوهمية النفسية واللذات المادية الجسدية.

ومما أثير في مصر في الآونة الأخيرة، وهو جار على ذات الحد من الطغيان الذي جبلت عليه النفوس إذا أعرضت عن الوحي وتنكرت له، وإن كانت من حملة مسائله حملان بهود للتوراة:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير