تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

صار مضرب المثل في الانحراف الأخلاقي ولا زالت آثارهم شاهدة بذلك فهي رموز تمجد اللذة الجسدية، ولعل ذلك المنهج الأبيقوري هو الذي أدى إلى ظهور المنهج الرواقي التجريدي، فخرج الفلاسفة من عباءة السفسطة كرد فعل مضاد، وخرج الزهد الرواقي من عباءة الأبيقورية المفرطة في تناول الشهوات الجسدية. تماما كما خرج تقديس العقل في كل الأمم من عباءة إهماله، وخرج الغلو في الزهد من عباءة الإفراط في تناول الشهوات فتلك ظواهرعالمية تشترك فيها سائر الأمم.

وتلك العنصرية العقلية هي التي تحجب صاحبها عن الانتفاع بما عند الأمم الأخرى، بل تحجبه حتى عن النظر فيها بإنصاف لعل فيها خيرا يفتقده.

وذلك بخلاف العقل المسلم الذي أسس بنيانه على قواعد إلهية وحكمية وأخلاقية راسخة، فاكتملت له مفردات الحضارة الإنسانية، بخلاف أوروبا التي لم تحقق طوال تاريخها أي تقدم حضاري إنساني، وإن تفوقت مدنيتها في فترات متعاقبة، فازدهرت في عصر اليونان، وهيمنت في عصر الرومان، ثم ركدت في القرون الوسطى، وعادت للظهور في العصر الحديث مدنية تكنولوجية وهيمنة سياسية وعسكرية واقتصادية ....... إلخ، فلم تحقق، عند النظر والتأمل، تقدما حضاريا متكاملا، إذ الجانب الإلهي والجانب التشريعي والجانب الأخلاقي في واقعها متهاوٍ، فلم تؤمن يوما برسالة صحيحة فغايتها أن آمنت بآثار رسالة محرفة، حملت بذور فنائها بإجبار العقول على انتحال مقالات تعارض العقل الصريح حتى صار الإيمان هو: الإيمان والتسليم للمحال الذاتي، فالإيمان هو الإيمان بالمستحيل الذي ينقض قياس العقل الصريح نقضا، فذلك مئنة من كمال التسليم!، لأن: الإيمان فوق المناقشة، وعلامة صحة الإيمان، كما حكى الشاطبي، رحمه الله، في "الاعتصام" عن بعض رءوس النصارى: أنه إيمان بأمر لا يتصوره العقل أصلا وإنما غايته أن يفترضه افتراض المحال!، وذلك مما لم تأت به النبوات التي أكملت العقول وزكتها: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)، فبعثه بما حارت عقولهم في إدراك حقائقه، مع تسليمها بصحة معانيه فهي ما بين الواجب والممكن، فواجب من قبيل اتصاف الرب، جل وعلا، بصفات الكمال المطلق وتنزهه عن صفات النقص، وممكن من قبيل كثير من السمعيات كوزن الأعمال بميزان حسي ذي كفتين في دار الجزاء ....... إلخ، فتلك أمور يتصورها العقل إما على سبيل الإيجاب، أو الإمكان على أقل تقدير، فيرد الوحي دالا عليها مقررا لها مزكيا للعقل بما حصله من العلم بها داعيا له إلى النظر في معانيها دون حقائقها، حاضا له في نفس الوقت على تأمل الآيات الكونية المبثوثة، في معرض تقرير ربوبية الباري، عز وجل، توسلا بذلك إلى تقرير العبودية والانقياد له على حد الإفراد، فضلا عما يناله من الانتفاع بقواها الطبيعية التي أودعها الله، عز وجل، فيها بما يؤصله هذا النظر من حس علمي تجريبي في العقل، فيكون النفع به مزدوجا على ما اطرد في دين الإسلام من الجمع بين الدين والدنيا، أو: الشرعيات والطبيعيات، فلا تعارض بينهما كما يقع في بقية الديانات، بل الدين قد جاء ليسوس الدنيا بما يحقق المنفعة العاجلة في دار الابتلاء والمنفعة الآجلة في دار الجزاء، فذلك مفهوم الإيمان الشرعي وأثره في الوجدان الباطن وعالم الشهادة الظاهر، فبركته قد عمت كلا المحلين.

وذلك على الضد مما دانت به أوروبا في عصورها المظلمة من إيمان شرعي، أو هكذا وصف، يناقض القياس العقلي، وتلك سمة بارزة لأي منهج فكري يخرج عن دائرة الوحي الصحيح، سواء أكان ذلك داخل دائرة الديانات أم خارجها، ففي الدائرة الإسلامية: تزداد مظاهر التناقض والاضطراب في مقالات الإسلاميين فرعا عن بعدهم عن جوهر الرسالة الصحيحة، فمقالات الباطنية والفلاسفة هي أشدها بعدا بل مناقضة لصريح الوحي، لأنها تفترض خيالات ثم تصيرها إلهيات واجبة الاتباع!، وافتراض وقوع التعارض بين النقل والعقل أمر وقع فيه أساطين المعتزلة والمتكلمين، وهم أصح عقلا وأسلم فطرة من الباطنية، فافترضوا تعارضا بين النقل والعقل، يقدم فيه القياس العقلي

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير