وَأَمَّا الْوَسَطُ: فَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ مُعَاوَنَةً عَلَى نَيْلِ الْعِلْمِ؛ بَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي حُصُولِ كَثِيرٍ مِنْ الْعِلْمِ وَلَيْسَ هُوَ وَحْدَهُ كَافِيًا؛ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَمْرٍ آخَرَ إمَّا الْعِلْمِ بِالدَّلِيلِ فِيمَا لَا يُعْلَمُ إلَّا بِهِ وَإِمَّا التَّصَوُّرِ الصَّحِيحِ لِطَرَفَيْ الْقَضِيَّةِ فِي الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ. وَأَمَّا الْعِلْمُ النَّافِعُ الَّذِي تَحْصُلُ بِهِ النَّجَاةُ مِنْ النَّارِ وَيَسْعَدُ بِهِ الْعِبَادُ فَلَا يَحْصُلُ إلَّا بِاتِّبَاعِ الْكُتُبِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الرُّسُلُ قَالَ تَعَالَى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ} إلَخْ وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْهُدَى وَالْإِيمَانَ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ طَرِيقِ الْعِلْمِ مَعَ عَدَمِ الْعَمَلِ بِهِ أَوْ بِمُجَرَّدِ الْعَمَلِ وَالزُّهْدِ بِدُونِ الْعِلْمِ فَقَدْ ضَلَّ".
فذلك جانب العلم.
ويقول في "قاعدة في المحبة":
"فباب محبة الله ضل فيه فريقان من الناس:
فريق من أهل النظر والكلام والمنتسبين إلى العلم جحدوها وكذبوا بحقيقتها.
وفريق من أهل التعبد والتصوف والزهد أدخلوا فيها من الاعتقادات والإرادات الفاسدة ما ضاهوا بها المشركين.
فالأولون يشبهون المستكبرين وهؤلاء يشبهون المشركين.
ولهذا يكون الأول في أشباه اليهود ويكون الثاني في أشباه النصارى.
وقد أمرنا الله تعالى أن نقول اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين". اهـ
فذلك جانب العمل.
فهذه الثنائية: ثنائية العلم والعلم من الثنائيات التي يظهر فيها التباين بين أتباع النبوة وأتباع الفلسفة ومن تأثر بهم من أهل الطريق، فكلاهما أعرض عن علوم النبوات إلى أصناف من الرياضات العملية فكان العمل عندهم ذريعة إلى تحصيل العلم الذي تكمل به نفوسهم فيسعها الخروج عن ناموس الشريعة الظاهر، وهذا أمر لازمه الانسلاخ من الديانة وهو ما وقع بالفعل للفلاسفة وغلاة أهل الطريق.
ويقول، في "مجموع الفتاوى"، في معرض مناقشة الفلاسفة في زعمهم أن الكمال ليس إلا في العلم المجرد:
"والمقصود هنا التنبيه على أنه لو قدر أن النفس تكمل بمجرد العلم، كما زعموه، مع أنه قول باطل، فإن النفس لها قوتان:
قوة علمية نظرية، وقوة إرادية عملية، فلا بد لها من كمال القوتين بمعرفة الله وعبادته، وعبادته تجمع محبته والذل له، فلا تكمل نفس فقط إلا بعبادة الله وحده لا شريك له.
والعبادة تجمع معرفته ومحبته والعبودية له، وبهذا بعث الله الرسل وأنزل الكتب الإلهية كلها تدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له. وهؤلاء يجعلون العبادات التي أمرت بها الرسل، مقصودها إصلاح أخلاق النفس لتستعد للعلم الذي زعموا أنه كمال النفس أو مقصودها إصلاح المنزل والمدينة وهو الحكمة العملية، فيجعلون العبادات وسائل محضة إلى ما يدعونه من العلم، ولذلك يرون هذا ساقطا عمن حصل المقصود، كما تفعل الملاحدة الإسماعيلية ومن دخل في الإلحاد أو بعضه، وانتسب إلى الصوفية أو المتكلمين أو الشيعة أو غيرهم". اهـ
ويقول في "الصفدية":
"والمقصود هنا التنبيه على أن هؤلاء القائلين بأن العالم معلول لعلة مبدعة وأن معجزات الأنبياء قوى نفسانية هم شر من أكثر المشركين وعباد الأصنام ومما يبين ذلك أن هؤلاء لا يقولون إن العبادات التي شرعتها الرسل إنما غايتها إصلاح خلق الإنسان فإن حكمتهم كحكمة سائر الناس نوعان علمية وعملية والعملية هي إصلاح سياسة الخلق والمنزل والمدينة ويزعمون أن الشرائع مقصودها هو هذا وهو السياسة المدنية والمنزلية والخلقية.
¥