تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومجاهدة النفس عندهم قد صارت طريقا إلى تحصيل مقام الفناء على ما فيه من إجمال أوقع كثيرا منهم في فناء الشهود المعطل لأسباب الكون المشهود في معارضة صريحة لسنة الرب، جل وعلا، في كونه، وزاد غلاتهم فوقعوا في فناء الوجود الذي نطق به غلاة الاتحادية وهو بدعة كلية قد مرق صاحبها من الديانة بالكلية، فضلا عن لوازمها من استباحة كل المحرمات إذ العين واحدة والرضا بكل الموجودات ولو نجست عينا أو فحشت قولا أو فعلا، فمؤدى ذلك إضعاف بل إبطال شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو ما وقع من كثير من متأخريهم إذ خلطوا بين مقام الرضا الشرعي، والقدر الكوني فجعلوا المحبة على حد الإرادة فكل ما أراده الله، عز وجل، ولو كان مكروها شرعا مسخوطا له، عز وجل، فهو عندهم مما يلزم الرضا به بل والفرح به إذ هو تأويل مراد الرب، جل وعلا، وذلك، كما تقدم، كان سببا في قعود المتأخرين عن جهاد المحتل بزعم الرضا بالقدر وإن أمكن المكلف بذل السبب في مدافعته فذلك هو تأويل سنة المدافعة التي يرضي الرب، جل وعلا، ما يظهر بها من آثار محبته والغيرة والانتصار لدينه، فلا يرضيه الشر في ذاته إذ هو مفسدة، ولكن يرضيه ما قدر بحكمته ظهورَه من آثار مدافعة القدر الكوني المكروه ببذل السبب المشروع ديانة فصاحبه قد استعان بالرب، جل وعلا، وتوكل عليه، ثم شرع في التعبد له ببذل ما تيسر له من الأسباب لرفع القدر الكوني الذي جعل القوم الرضا به من مقامات العارفين الذين أدركوا الحقيقة الكونية فعارضوا بها الحقيقة الشرعية!.

يقول ابن تيمية، رحمه الله، في ذكر طرف من حال أولئك:

" .... فشهدوا أن الله رب الكائنات جميعها وعلموا أنه قدر كل شيء وشاءه وظنوا أنهم لا يكونون راضين حتى يرضوا بكل ما يقدره الله ويقضيه من الكفر والفسوق والعصيان حتى قال بعضهم: المحبة نار تحرق من القلب كل ما سوى مراد المحبوب، (وذلك إنما يصح إن قيد المراد: بالشرعي لا بالكوني فإن المحبة تحرق ما سوى مراد الرب، عز وجل، الشرعي، بنار البغض لما يكره نهيا عنه واحتسابا على فاعله ولو بالقلب غيرة أن تنتهك محارم الرب جل وعلا فإن ملوك الدنيا لا يرضون بانتهاك محارمهم فيغضب لغضبهم جموع المتملقين، والرب، جل وعلا، ملك الملوك أولى بأن يغضب لغضبه وأولى بهذا الملق فإنه لا يأمر إلا بكل حسن ولا ينهى إلا عن كل قبيح، بخلاف ملوك الدنيا الذين يقع من التعدي في أحكامهم ما يقع)، قالوا: والكون كله مراد المحبوب وضل هؤلاء ضلالا عظيما حيث لم يفرقوا بين الإرادة الدينية والكونية والإذن الديني والكوني والأمر الديني والكوني والبعث الكوني والديني والإرسال الكوني والديني .......... وهؤلاء يؤول بهم الأمر إلى أن لا يفرقوا بين المحظور والمأمور وأولياء الله وأعداء الله والأنبياء والمتقين ويجعلون الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض ويجعلون المتقين كالفجار ويجعلون المسلمين كالمجرمين ويعطلون الأمر والنهي والوعد والوعيد والشرائع.

وربما سموا هذا حقيقة ولعمري إنه حقيقة كونية لكن هذه الحقيقة الكونية قد عرفها عباد الأصنام كما قال تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله)، وقال: (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون) ". اهـ

"الاستقامة"، ص375، 376.

فشهود الحقيقة الكونية لا ينفع صاحبه حتى يشهد معها الحقيقة الشرعية، فيكتمل له جانب الإيمان بالقدر الكوني فتلك: قدرة الله عز وجل، والقدر الشرعي فتلك: حكمة الله عز وجل، وبهما يثبت للرب، جل وعلا، كمال الربوبية فيقضي ما شاء بحكمته لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. والربوبية ما هي إلا: ملك بقدرة وتدبير بحكمة لا يحصل كمال الإيمان بها إلا بإثبات الوصفين، وتأمل حال من قصر في أحدهما تجد الفساد العلمي والعملي كائنا فيه بقدر تقصيره فإن من طالع جانب القدرة فعظمه وأغفل جانب الحكمة، فإنه إما أن يصير إلى:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير