تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

مقالة أهل الجبر كرد فعل لذلك فلا يرى إلا قدرة الله، عز وجل، في كل الحوادث ويغفل جانب الحكمة الشرعية التي شرعت لكل نازلة ما يناسبها من الحكم الشرعي لازم الحكم الكوني فلزومه له من جنس لزوم الألوهية للربوبية، فحكم الربوبية قاض بوقوع كذا من المقدورات خيرا أو شرا، وحكم الألوهية قاض بلزوم مقابلة الخير بالشكر والشر بالمدافعة إن كان مما يدافع، والصبر على ذلك والرضا به إن كان العبد من أصحاب المقامات الإيمانية الرفيعة التي حصلها آحاد من المسلمين لم يدرسوا متون العقائد وشروحها وإنما باشروها فذاقوا ما لم يذقه كثير من أرباب المتون والشروحات، وليس ذلك تحقيرا من شأن طلب العلم فهو من أشرف الوظائف التي يقضي فيها المكلف ساعات عمره، وإنما هو بيان لأمر واقع، فإن العلم أول المنازل فمن لم يشفعه بالعمل فقد تعلم ليقيم الحجة على نفسه!، فليس علم ينفع حتى يقيم صاحبه الدليل عليه من عمله، وإن لم يقدر على ذلك فحسبه أن يحاول لعل الله، عز وجل، يغفر له تقصيره في العلم بما قام بقلبه من الإرادات الشريفة وإن لم تبلغها نفسه لتأخرها وقصورها فلعله أن يكون من أهل: أحب الصالحين ولست منهم، ولعله أن يكون ممن بلغتهم نية صالحة درجة قصر عنها عملهم، ولكل مقام معلوم، فالتشبه بأصحاب المقامات العلية مراد شرعي، فمن تشبه بقوم فهو منهم، فيصير التشبه في القول والفعل ذريعة إلى التشبه في الحكم، فالنظير يأخذ حكم نظيره بمقتضى قياس العقل الصريح.

فأهل الجبر غلاة في القدرة جفاة في الحكمة يستعينون بلا عبادة، فلهم في القدرة الكونية أحوال وليس لهم في الحكمة الشرعية أقوال وأفعال.

وإما أن يصير إلى طريقة الخوارج الذين عظموا جانب الجلال وأهملوا جانب الجمال فلم يطالعوا في أقدار الله، عز وجل، إلا جانب القدرة القاهرة دون الحكمة الباهرة، فعبدوا الله، عز وجل، بالخوف من آثار أوصاف جلاله دون الشوق إلى آثار أوصاف جماله، فكانوا عبادا برسم القهر دون المحبة، والعبادة لا تكتمل إلا بركني: الذل الذي يقهر النفس لربها عز وجل، والمحبة التي تحمله على إسراع الخطا إلى مراضي الرب، جل وعلا، برسم: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) فلا يرضى كما أثر عن بعض السلف، أن يسبقه إلى ربه، عز وجل، أحد، ولا يكون ذلك إلا وليد شوق، ولا يكون الشوق إلا لمن تحسن الظن به فسيلقاك بمجرد نزولك عليه بالود والترحاب وإن ابتلاك في أثناء الطريق بأجناس المؤلمات لتقدم عليه في أطهر حال وأكمل وصف، فإحسان الظن بالرب، جل وعلا، وهو ما يغفل عنه كثير منا عند وقوع النوازل الكونية، إحسان الظن به مظنة المحبة، والمحبة لا تتعلق إلا بأوصاف الجمال التي غفل عنها من عبد الرب، جل، بالخوف وحده فحمله ذلك على إساءة الظن به فلا يغفر لعاص بل لا يقدر على ذلك كما زعم فئام من الضلال من أصحاب المقالات، فلا يكتمل السير إلا بقدمي: المحبة فهي الحاملة على الرغبة في آثار أوصاف جمال الرب، جل وعلا، والخوف فهي الحاملة على الرهبة من آثار أوصاف جلاله تبارك وتعالى.

ومن غلب جانب الحكمة على جانب القدرة:

فإنه صائر إلى مقالة أهل القدر الذين نظروا إلى إتقان السنة الشرعية أمرا ونهيا، دون السنة الكونية: إيجادا وإعداما، إحياء وإماتة ..... إلخ، فأنكروا قدرة الرب، جل وعلا، التي غلا الأولون في إثباتها، وعظموا جانب الحكمة الذي أهمله الأولون فهم على طرفي نقيض وأهل الحق وسط بين كليهما فلا إفراط في جانب وتفريط في المقابل، وإنما التوسط والاعتدال بإثبات وصف جلال من قدرة قاهرة، ووصف جمال من حكمة بالغة.

فأهل القدر النفاة غلاة في الحكمة جفاة في القدرة يعبدون بلا استعانة، فلهم في الحكمة الشرعية أقوال وأفعال وليس لهم في القدرة الكونية أحوال. فهم على النفيض من أهل الجبر.

ومن غلب وصف الجمال من الرحمة على وصف الجلال من العذاب فهو صائر إلى مقالة أهل الإرجاء الذين فرطوا برسم إحسان الظن، وكذبوا، كما أثر عن الحسن رحمه الله، فلو أحسنوا الظن لولد ذلك في نفوسهم تصورا صحيحا ينتج إرادات صحيحة يظهر من آثارها على الألسنة والأبدان من الأحكام الصحيحة ما تقر به أعين أهل البر والإجسان وتشقى به نفوس أهل الفجور والعصيان.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير