وربما كانت العزلة نافعة في بعض مراحل الهجرة إلى الله، عز وجل، بل ربما كانت هي السبيل الآمن في الأزمنة التي يغلب عليها الفساد، ولكنها في العموم: ليست الحال المثلى، فهي علامة ضعف وقلة صبر على احتمال الأذى، فلا تصلح إلا لمن علم في نفسه سرعة الجزع، فخير له أن يعتزل برسم الشرع، فلا عزلة مأمونة لمن قل علمه وضعفت بصيرته، إذ ذلك صيد يسهل وقوعه في شرك إبليس وجنده.
والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم".
وعند ابن أبي شيبة، رحمه الله، في "مصنفه" من طريق ميمون ابن أبي شبيب قال: قال صعصعة لابن أخيه: .......... إذا لقيت المؤمن فخالطه، وإذا لقيت الفاجر فخالفه.
ومن طريق حبيب بن أبي ثابت قال: قال عبد الله بن مسعود: خالطوا الناس وزايلوهم وصافحوهم ودينكم لا تكلمونه.
قال الخطابي، رحمه الله، في "العزلة" في معرض التعقيب على هذا الأثر:
"يريد خالطهم ببدنك وزايلهم بقلبك وليس هذا من باب النفاق ولكنه من باب المداراة. وقد قال: النبي صلى الله عليه وسلم: «مداراة الناس صدقة» "
فقوله: "لا تكلمونه" أي: لا تجرحونه، فخالطوهم في أمر الدين والدنيا النافعة، واجتنبوا فضول الخلطة والكلام فذلك مفسد للعبد، مشتت للشمل، مضعف لجند القلب، ذريعة إلى الوقوع في المحارم، فحمى محارم اللسان: فضول الكلام، فليتوق الإنسان الرعي فيه بمزاولة رياضة الصمت في موضعه، وقد كان هذا شأن الأئمة الأعلام، كما أثر من وصف الفضيل بن عياض، رحمه الله، لمقدم الفقهاء الإمام أبي حنيفة النعمان رحمه الله: "كان أبو حنيفة رجلا فقيها معروفا بالفقه مشهورا بالورع واسع المال معروفا بالأفضال على كل من يطيف به صبورا على تعليم العلم بالليل والنهار حسن الليل كثير الصمت قليل الكلام حتى ترد مسألة في حلال أو حرام فكان يحسن أن يدل على الحق هاربا من مال السلطان".
فإن اضطر الإنسان إلى فضول الخلطة فليكن على رسم أهل الطريق للسالك بأنه: "كائن بائن"، ومن كلام بعض السالكين في تعريف العزلة قول أبي محمد الجريري رحمه الله: "هي: الدخول بين الزحام، وتحفظ سرك، أن لا يزاحموك، وتعتزل نفسك عن الآثام، حتى يكون سرك مربوطا بالرب عز وجل". اهـ
قال البيهقي، رحمه الله، في "الزهد الكبير": "وقد روي معنى هذا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه". اهـ
يقول ابن القيم، رحمه الله، في "مدارج السالكين":
"وهذه الحال تحمد في بعض الأماكن والأوقات دون بعضها وإلا فالمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من هؤلاء فالعزلة في وقت تجب فيه ووقت تستحب فيه ووقت تباح فيه ووقت تكره فيه وقت تحرم فيه". اهـ
وعن التوسط في هذا الباب يقول الخطابي رحمه الله:
"والطريقة المثلى في هذا الباب أن لا تمتنع من حق يلزمك للناس وإن لم يطالبوك به وأن لا تنهمك لهم في باطل لا يجب عليك وإن دعوك إليه فإن من اشتغل بما لا يعنيه فاته ما يعنيه ومن انحل في الباطل جمد عن الحق، فكن مع الناس في الخير وكن بمعزل عنهم في الشر وتوخ أن تكون فيهم شاهدا كغائب وعالما كجاهل". اهـ
ويقول في موضع تال:
"قد انتهى منا الكلام في أمر العزلة إلى حيث شرطنا أن نبلغه وأوردنا فيها من الأخبار ما خفنا أن نكون قد حسنا معه الجفاء من حيث أردنا الاحتراز منه، وليس إلى هذا أجرينا ولا إياه أردنا فإن الإغراق في كل شيء مذموم وخير الأمور أوسطها والحسنة بين السيئتين، وقد عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الإغراق في عبادة الخالق عز وعلا والحمل على النفس منها ما يؤودها ويكلها ...... فما ظنك بما دونها من باب التخلق والتكلف". اهـ
ويقول في موضع آخر في بيان فوائد العزلة:
¥