تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فلا يعقل أن يغض الطرف عن تلك الغايات الجليلة، ويصير الطب علما نظريا تجريديا يعنى بدراسة الأبعاض والأعراض دون غاية عملية نافعة فإن العلم المجرد عن العمل، كما تقدم، ترف عقلي يصيب الأمم بالبطالة، ولذلك لا يكون ازدهاره إلا في أزمنة الاسترخاء أو التقليد والجمود، فعلم بلا عمل: وقود بلا احتراق يولد طاقة ينتفع بها، فيصير كأي مائع راكد لا جدوى منه.

ويبقى السؤال: هل يحتاج المسلمون إلى مقررات الفلسفة اليونانية لإثبات مسائل أصول الدين؟

والجواب: إن الأمم الأخرى قد تحتاج إليها لدروس آثار النبوات فيها، وقد احتاجها اليونان لرد عدوان السفسطائية على العقل البشري، فلا بد لكل أمة من منهاج تسير عليه في أمور الغيب، ولو استند إلى مقاييس عقلية أرضية لا يصح إجراؤها إلا على المدركات المحسوسة في عالم الشهادة، فإن النفس قد خلقت لتتحرك في المحسوسات والمعقولات، فلم تخلق للسكون، بل هي دوما حارثة همامة، فبالهم تتحرك في العلوم، وبالحرث تتحرك في الأعمال، فإن لم تكن حركتها على رسم اتباع النبوات: أصح المسالك العلمية والعملية، فإنها ستتحرك على أي رسم آخر، ولذلك احتاجت أوروبا لما أعرضت عن الوحي الصحيح فبدلت دين المسيح، وإن أظهرت الانتساب إليه، احتاجت إلى إقحام فلسفات وأفكار أرضية غلب عليها الطابع الوثني في دين المسيح عليه السلام حتى خرجت به عن جوهر التوحيد الذي دعا إليه، فلم يبق لها من الانتساب إليه إلا الاسم، فنصرانيتها: اسم بلا رسم، فهي سماوية النسبة، أرضية المنهج والمبادئ، بل وثنية اقتبست نظريات الفداء والصلب والتثليث والرهبنة من فلسفات الحضارات القديمة، فلما أعرضت عن الوحي الصحيح، احتاجت إلى ما يملأ فراغها العقدي والفكري، فتغذت على فلسفات تلك الأمم، ولما أبت الانقياد إلى الوحي مرة أخرى، فكفرت بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم استبدلت فلسفة اليونان برسالة التوحيد، على حد قوله تعالى: (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ)، ثم جاء الدور الثالث من أدوار التيه الأوروبي، إذ كفرت أوروبا أخيرا بتعاليم الكنيسة البالية، فتحررت من رق الكهنوت إلى رق العلمانية الحديثة، فهي دوما مفتقرة إلى مقررات الأذهان المضطربة فرعا عن إعراضها عن مقررات النبوة العاصمة للعقل من مزالق القياس الفاسد في باب الإلهيات.

فهذا حال بقية الأمم، بخلاف أمة الإسلام التي استغنت بمقررات الوحي المعصوم عن مقررات الفلسفة وعن مقررات العلمانية المعاصرة التي لا تعدو كونها ثورة جديدة من ثورات العقل الأوروبي التائه على النبوات التي أساءت إليها الكنيسة بحجرها على العقول إذ فرضت على أتباعها مقالات تأباها العقول الصريحات وطاردت كل فكر حر تسول له نفسه الخروج عن مقرراتها التي ادعي لها من العصمة ما كذبه العقل الصريح والبحث العلمي الحديث.

فلم تحتج الأمة الإسلامية إلى مقررات الفلسفة في الإلهيات قديما كما أنها لا تفتقر اليوم إلى مقررات العلمانية التي كانت ثورة تولدت في أمم أخرى كانت تعاني من كبت فكري لم تتعرض له أمة النقل والعقل، فاختلاق معركة مفتعلة بين الوحي والعقل في أمة الشرق فرعا عن المعركة التي دارت بينهما في أمة الغرب: قياس مع الفارق.

بل لا تحتاج أمة الإسلام إلى غير الوحي المنزل في سائر شئونها الفكرية من عقائد وشرائع وأخلاق وسياسات وإنما تحتاج فقط من نتاج الأمم الأخرى إلى المنجزات الحديثة فجلها داخل في حد المصالح المرسلة فالأخذ بها ما لم تعارض نصا شرعيا أمر محمود ما لم تصر في حد ذاتها غاية فيصير صاحبها من أهل: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ).

والله أعلى وأعلم.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير