المقيم فهو صبر ساعة والله المستعان ولا قوة إلا بالله وكلما كانت النفوس أشرف والهمة أعلا كان تعب البدن أوفر وحظه من الراحة أقل كما قال المتنبي:
وإذا كانت النفوس كبارا ******* تعبت في مرادها الأجسام
وقال ابن الرومي:
قلب يظل على أفكاره وئد ******* تمضي الأمور ونفس لهوها التعب
وقال مسلم في صحيحه قال: يحيى بن أبي كثير: لا ينال العلم براحة البدن ولا ريب عند كل عاقل أن كمال الراحة بحسب التعب وكمال النعيم بحسب تحمل المشاق في طريقه وإنما تخلص الراحة واللذة والنعيم في دار السلام فأما في هذه الدار فكلا". اهـ
ويقول ابن تيمية رحمه الله:
"وهنا أصل عظيم نافع يجب اعتباره وهو ان الأمور المذمومة في الشريعة كما ذكرناه هو ما ترجح فساده على صلاحه كما أن الأمور المحمودة ما ترجح صلاحه على فساده فالحسنات تغلب فيها المصالح والسيئات تغلب فيها المفاسد والحسنات درجات بعضها فوق بعض والسيئات بعضها أكبر من بعض فكما أن أهل الحسنات ينقسمون إلى الأبرار المقتصدين والسابقين المقربين فأهل السيئات ينقسمون إلى الفجار الظالمين والكفار المكذبين وكل من هؤلاء هم درجات عند الله"
"الاستقامة"، ص326.
ولا ريب أن لسلوك الجماعة وتصوراتها أثرا في سلوك الفرد وتصوره، وقد أثر عن سليمان بن عبد الملك، رحمه الله، أنه كان متوسعا في المباح من شهوة البطن والفرج، فأثر ذلك في تصور وهمة رعيته، فكان حديث الرجل إذ لاقى صاحبه عن أصناف المطاعم والمناكح، وذلك مما لا يليق بمجالس أولي العزم من الرجال فهو مئنة من ضعف الإرادة ودنو الهمة، ثم ولي أشج بني أمية، رحمه الله، ليحدث بعلمه وعمله، انقلابا فكريا، إن صح التعبير، فتبدلت التصورات والإرادات وصار الرجل يلقى صاحبه فيسأله عن صوم النفل وقيام الليل، فالناس على دين ملوكهم، والأفراد على دين الجماعة، فاسدا كان أو صالحا.
فإن كان تصور الجماعة: صحيحا، أثر في تصور الفرد بالإيجاب، وإن كان فاسدا أثر في تصوره بالسلب، فلا تستوي جماعة قد استنفرت الإرادات القلبية واستنهضت القوى البدنية طلبا لنافع العلوم وصالح الأعمال، وأخرى قد علقت همتها بلذة مآلها التلف من صورة أو مال، فضلا عن أن يكون متعلقها شبهة علمية فأثرها أعظم من أثر الشهوة العملية، وإن كان كلاهما للباطن والظاهر مفسدا.
يقول ابن تيمية رحمه الله:
"فمن الناس من يبتلى بالفاحشة وإن كان ممسكا عن الكلام ومن الناس من يبتلى بالكلام والاعتداء على غيره بلسانه وإن كان عفيفا عن الفاحشة.
وأيضا فإن من الكلام المنهي عنه الخوض في الدين بالبدع والضلالات مع تضمنه لشهوة الطعام.
وما بين الفرجين يتضمن أقوى الشهوات وذلك من الاستمتاع بالخلاق في الدنيا كما جمع الله تعالى بينهما بقوله: (فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا).
الأول: يتضمن الشبهات.
والثاني: يتضمن الشهوات.
الأول: يتضمن الدين الفاسد والثاني يتضمن الدنيا الفاجرة وكان السلف يحذرون من هذين النوعين من: المبتدع في دينه والفاجر في دنياه.
كل من هذين النوعين وإن لم يكن كفرا محضا فهذا من الذنوب والسيئات التي تقع من أهل القبلة.
وجنس البدع وإن كان شرا لكن الفجور شر من وجه آخر وذلك أن الفاجر المؤمن لا يجعل الفجور شرا من الوجه الآخر الذي هو حرام محض لكن مقرونا باعتقاده لتحريمه وتلك حسنة في أصل الاعتقاد وأما المبتدع فلا بد ان تشتمل بدعته على حق وباطل لكن يعتقد أن باطلها حق أيضا ففيه من الحسن ما ليس في الفجور ومن السيئ ما ليس في الفجور وكذلك بالعكس". اهـ
"الاستقامة"، ص321، 322.
فالفاجر: وإن تلبس بالفواحش، إلا أنه إن كان صحيح المعتقد باعتبار الأصل، فإن فجوره يقدح في إيمانه قدحا يصيره من أهل الوعيد إن لم يستحل ما هو عليه بلا شبهة يعذر بها فإنه يصير باستحلاله على هذا النحو: كافرا وإن لم يباشر المحرم، فهو متوعد لنقص إيمانه الواجب.
¥