والمقصود أنالرضا الذي هو من طريق الله لا يتضمن ترك واجب ولا ترك مستحب فالدعاء الذي هو واجب أو مستحب لا يكون تركه من الرضا كما أن ترك سائر الواجبات لا يكون من الرضا المشروع ولا فعل المحرمات من الرضا المشروع فقد تبين غلط هؤلاء من جهة ظنهم أن الرضا مشروع بكل مقدور ومن جهة أنهم لم يميزوا بين الدعاء المشروع إيجابا أو استحبابا والدعاء غير المشروع وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن طلب الجنة من الله والاستعاذة به من النار هو من أعظم الأدعية المشروعة لكل أحد من المرسلين والنبيين وجميع الصديقين والشهداء والصالحين وأن ذلك لا يخرج عن كونه واجبا أو مستحبا وطريق أولياء الله التي يسلكونها لا تخرج عن فعل واجبات ومستحبات إذ ما سوى ذلك محرم أو مكروه أو مباح لا منفعة فيه في الدين". اهـ
بتصرف من: "الاستقامة"، ص406_408.
فالرضا عن المعاصي لا يتصور ابتداء، أو يتصور بالنظر إلى فعل الرب، جل وعلا، فالشر ليس إليه، بل هو في المقدور الكائن، فيرضى العبد بفعل الرب، جل وعلا، الذي هو قضاؤه ولا يرضى بالمفعول الكائن وهو المعصية فالشر فيها لا في مقَدِّرها، عز وجل، أو يتصور على سبيل انفكاك الجهة فلها وجهان:
وجه إلى العبد وهو فعله وكسبه الاختياري بإرادته المختارة التي لا تخرج عن إرادة الرب جل وعلا.
و: وجه إلى الرب وهو قضاؤه الكوني النافذ.
فيتعلق الرضا بالثاني دون الأول، فيرضى فعل الرب، جل وعلا، ويدافع فعل العبد بالتوبة والاستغفار أو الزجر والتعزير لمن له ولاية عامة أو خاصة عليه.
وإلى تلك الأوجه أشار ابن تيمية، رحمه الله، بقوله:
"أحدها: أن هذا العموم ليس بصحيح فلسنا مأمورين أن نرضى بكل ما قضى وقدر ولم يجئ في الكتاب والسنة أمر بذلك ولكن علينا أن نرضى بما أمرنا بالرضا به كطاعة الله ورسوله ....
والجواب الثاني: انهم قالوا إنا نرضى بالقضاء الذي هو صفة الله أو فعله ولا نرضى بالمقضي الذي هو مفعوله وفي هذا الجواب ضعف .........
الثالث: أنهم قالوا إن هذه المعاصي لها وجهان: وجه إلى العبد من حيث هي فعله وصنعه وكسبه ووجه إلى الرب من حيث أنه خلقها وقضاها وقدرها فنرضى من الوجه الذي يضاف به إلى الله ولا نرضى من الوجه الذي يضاف به إلى العبد إذ كونها شرا وقبيحة ومحرمة وسببا للعذاب والذم ونحو ذلك إنما هو من جهة كونها مضافة إلى العبد وهذا مقام فيه من كشف الحقائق والأسرار ما فيه ......... ولا يحتمله هذا المكان فإن هذا متعلق بمسائل الصفات والقدر وهو من أعظم مطالب الدين وأشرف علوم الأولين والآخرين وأدقها على عقول أكثر العالمين". اهـ
بتصرف من: "الاستقامة"، ص404.
ويقول، رحمه الله، في معرض بيان أقسام الناس في هذا الباب:
"ولا ريب أن ملاحظة القضاء والقدر أوقعت كثيرا من أهل الإرادة من المتصوفة في أن تركوا من المأمور وفعلوا من المحظور ما صاروا به إما ناقصين محرومين وإما عاصين وإما فاسقين وإما كافرين.
وهؤلاء والمعتزلة ونحوهم من القدرية في طرفي نقيض.
هؤلاء يلاحظون القدر ويعرضون عن الأمر، (وهم: أهل الجبر)، وأولئك يلاحظون الأمر ويعرضون عن القدر والطائفتان تظن أن ملاحظة الأمر والقدر متعذر كما أن طائفة تجعل ذلك مخالفا للحكمة والعدل.
وهذه الأصناف الثلاثة هي القدرية المجوسية والقدرية المشركية القدرية الإبليسية، (فالمجوسية تثبت للعبد فعلا مستقلا عن إرادة الرب، جل وعلا، الكونية فتجعله خالقا لفعله على حد قول المجوس بإله للخير وآخر للشر، والمشركية تعارض الأمر الشرعي بالأمر الكوني، والإبليسية تعارض الحكم الشرعي بقياسها العقلي الفاسد) ........... وأكثر ما يبتلى به السالكون أهل الإراداة والعامة في هذا الزمان هي القدرية المشركية فيشهدون القدر ويعرضون عن الأمر كما قال فيهم بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري أي مذهب وافق هواك تمذهبت به وإنما المشروع العكس وهو أن يكون عند الطاعة يستعين الله عليها قبل الفعل ويشكره عليها بعد الفعل ويجتهد أن لا يعصي فإذا أذنب وعصى بادر إلى التوبة والاستغفار
كما في الحديث: "سيد الاستغفار أن يقول العبد بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي وكما في الحديث الصحيح الإلهي: يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك لا يلومن إلا نفسه.
ومن هذا الباب دخل قوم من أهل الإرادة في ترك الدعاء وآخرون جعلوا التوكل والمحبة ونحو ذلك من مقامات العامة! ".
انظر: "الاستقامة"، ص411_413.
والله أعلى وأعلم.