أما الثالث: وهو مَن ليس عنده علم، فهذا يجب عليه أن يسأل أهل العلم لقوله تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ}، وفي آية أخرى: {إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَتِ وَالزُّبُرِ}. فوظيفة هذا أن يسأل، ولكن مَن يسأل؟ في البلد علماء كثيرون، وكلٌّ يقول: إنه عالم، أو كلٌّ يقال عنه: إنه عالم، فمن الذي يسأل؟ هل نقول: يجب عليك أن تتحرى مَن هو أقرب إلى الصواب فتسأله ثم تأخذ بقوله، أو نقول: اسأل مَن شئت ممَّن تراه من أهل العلم، والمفضول قد يوفَّق للعلم في مسألة معيَّنة، ولا يوفَّق مَن هو أفضل منه وأعلم ـ اختلف في هذا أهل العلم؟
فمنهم مَن يرى: أنه يجب على العامي أن يسأل مَن يراه أوثق في علمه من علماء بلده، لأنه كما أن الإنسان الذي أصيب بمرض في جسمه فإنه يطلب لمرضه مَن يراه أقوى معرفة في أمور الطب فكذلك هنا؛ لأن العلم دواء القلوب، فكما أنك تختار لمرضك مَن تراه أقوى فكذلك هنا يجب أن تختار مَن تراه أقوى علماً إذ لا فرق.
ومنهم مَن يرى: أن ذلك ليس بواجب؛ لأن مَن هو أقوى عِلماً قد لا يكون أعلم في كل مسألة بعينها، ويرشح هذا القول أن الناس في عهد الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسألون المفضول مع وجود الفاضل.
والذي أرى في هذه المسألة أنه يسأل مَن يراه أفضل في دينه وعلمه لا على سبيل الوجوب، لأن من هو أفضل قد يخطأ في هذه المسألة المعينة، ومن هو مفضول قد يصيب فيها الصواب، فهو على سبيل الأولوية، والأرجح: أن يسأل من هو أقرب إلى الصواب لعلمه وورعه ودينه.
وأخيراً أنصح نفسي أولاً وإخواني المسلمين، ولاسيما طلبة العلم إذا نزلت بإنسان نازلة من مسائل العلم ألا يتعجَّل ويتسرَّع حتى يتثبَّت ويعلم فيقول لئلا يقول على الله بلا علم.
فإن الإنسان المفتي واسطة بين الناس وبين الله، يبلِّغ شريعة الله كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم «العلماء ورثة الأنبياء».
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلّم «أن القضاة ثلاثة: قاض واحد في الجنة وهو مَن عَلِمَ الحق فحكم به» كذلك أيضاً من المهم إذا نزلت فيك نازلة أن تشد قلبك إلى الله وتفتقر إليه أن يفهمك ويعلِّمك لاسيما في الأمور العظام الكبيرة التي تخفى على كثير من الناس.
وقد ذكر لي بعض مشائخنا أنه ينبغي لمَن سئل عن مسألة أن يُكْثِر من الاستغفار، مستنبطاً من قوله تعالى: {إِنَّآ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَبَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً}، لأن الإكثار من الاستغفار يوجب زوال أثر الذنوب التي هي سبب في نسيان العلم والجهل كما قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَقَهُمْ لَعنَّهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَضِعِهِ وَنَسُواْ حَظَّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ}، وقد ذُكِرَ عن الشافعي أنه قال:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نور ونور الله لا يؤتاه عاصي
فلا جرم حينئذٍ أن يكون الاستغفار سبباً لفتح الله على المرء.
وأسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، وأن يثبِّتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهَّاب.
والحمد لله رب العالمين أولاً وأخيراً ...
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.