تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

البحثُ .. ضرورة العلوم

ـ[ذو المعالي]ــــــــ[13 - 07 - 10, 09:20 م]ـ

طالبُ العلوم و المعارف منهوم بالتتبع و التطلُّع للمزيد منها، فلا يقف عند حد و لا ينتهي إلى أمدٍ يقدر عليه، لهذا فهو يبذل قُصارى جُهده لتحصيل الكثير من المكنون في أصدافه، و في غير المظنون، و في الزوايا، فيجد ضالَّةً ضاعت بين الركام الحرفي، و يجد تائهة في طُرُق السطور الكُتُبيَّة، فيلتقطها، فيحتفل بها، و يرقص لها فؤادُه، و تبتهج نفسه.

عملية البحث من ضروريات العلوم، و التي هي من أميزِ صفات الجاد في تحصيلها، سواءً كان البحثُ:

_ تحقيقاً لمسألة أو قضية، أو حلاً لإشكالٍ، أو إيضاحاً لغامضٍ.

_ إسعافاً في نازلة، أو كشفاً لضائقة علمية، أو حاجة عابرة.

فالأول نقصودٌ من الأساس لدى الباحث، و شأنه يطول، و تتعدد مصادره. و الثاني شيءٌ طاريء موصوف بالعجلة، و يُكتفى منه بمصدرٍ واحد، فصاحبه كالغريق يتشبَّثُ بأي قَشَّة، و لا قشَّة في علم.

يمنح البحثُ الإنسان سَعةً في المدارك العلمية، و يعطيه آفاقاً أوسعَ في الرأي و النظر، و لأجل هذا كان أدبُ الباحثِ ألا يُحاكمَ الجديد إلى قديمه، و ألا يجعله في قفص الاتهام، بتهمة تبلغ درجة اليقين أو تُقاربُها، بل العلوم كلها تحت نظر التمحيص، و ما يصح منها إلا ما استند إلى أصلٍ قطعي ببرهان قطعي. فأدب الباحث هنا أن يجعل الجديد من المعارف محلَّ احتفاله، و يأنَسَ بها، و يرتقي بها إلى مراتب العارفين و العالمين، ليجد من فائدة البحث لذةً، و من عائدة التنقيبِ شَهداً. أما إذا جعلها في محلِّ تُهمةٍ ملَّ البحث، و اعتلَّ جُهده، و حدَّثته نفسُ الردى: أن ليس فيما تجده زائدا، فكن على ما لديك عاكفا. و يكون شيطان الهوى عوناً، و تغدو المعارف لدينه فرعونَ. فينفرُ منها نفورَاً لا يليق بذي عقلٍ، و لا يكون فيمن لديه ومضة علم.

يُشغل نفر من طلاب العلوم أنفسهم في الاعتكاف على البحث وقتا طويلا، و يقيمون أنفسهم بين أكوام الكتب تنقيبا و تحليلا و دراسة. و ما كل شيء يُبحث فيه و عنه، فهناك الكثير أولى بالعناية، وما رسائل الدرجات العليا إلا دليلا واضحاً على عدم وزن شؤون البحث. فشأن البحثِ حين نراه قديماً، عند صُناع العلوم، كان في قضايا مهمة جدا، و أهميتها بحسب قيمتها و أثرها، فلم تكن البحوث منهم مكررة تكرارا يحتار الشخص في الاختيار، بل كانت بحوثا مُحكمة، و لها وزنها، و إن كتبَ أحد كتابةً جامعة وافية أغلق البقية باب البحث. فكما أن البحث ضرورة فقد يكون ضررا.

آخرون من الناس، طلابِ العلوم، لا يُقيمون للبحثِ وزنا، فيسألون عن كل صغيرة و كبيرة من العلوم، و لا يُكلفون أنفسهم البحثَ ولو يسيراً، و لا ينهض بالإنسان مثل نفسه، و لا يخدمه أحد أصدق من ذاته، و هذا النوع من الناسِ لا يُنتظر منهم أن يقوموا بشأن العلوم، و لا أن ينهضوا بآثار الثقافات و المعارف، لعجزهم عن البحث عن يسير العلم، ومن عجز عن اليسير فهو عن الكثير أشد عجزاً. السؤال نوع من البحث، و لكن ليس كل شيءٍ يُسأل عنه. و نرى أطروحات الأسئلة، في كل مكان، تنبيءُ عن هذا الشيء، يقبُح السؤال عن كل شيءٍ في مقدور السائل الوصولَ إليه إذا كان من شخص نعتَ نفسه بأنه من طلاب العلوم و المعارف، و من المشتغلين بها، فلو كان كذلك، وصادقا مع نفسه، لأثبت برهان ذلك بعدم السؤال عن كل شيءٍ.

إن جِدَّ الطالب للعلوم يبعثه على أن يَقصر بحثه على الأهم منها، فلا يضع جهده فيما يُمكنه لأي أحد أن يقوم به، و البحثُ بُرهان عقلِ الباحث، لأنه كتابٌ، و السؤال ميزان عقل السائل، فلنرتقي ببحوثنا لتكون مفيدة الوقتَ، مواكبة حاجات العصر، فأوجب ما على الإنسان أن يعرف زمانه، و يهتمَّ بشأنه.

لا زالت مهارة البحثِ الجوهرية غائبة في صفوف طلاب العلوم، فالدلائل على ذلك كثيرة، و لو قلَّب الإنسان عينه يمينا أو شمالا، لابتغى الوشاح اشتمالا. حسَّن الله الأحوال، و سدد الخُطى، و أقال من الخَطا.

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير