فنعوذ بالله من أناس تشيَّخوا قبل أن يشيخوا، ولعلَّهم لن يشَيَّخوا وإن شاخوا!!
وتراهم يتكلَّمون في كلِّ مسألةٍ كيفما اتَّفَق، فتجد قلَّة العلم، وقلة التأني والتأمل والنظر - أو عدمه - فليس عنده إلا الرَّغبة في اللجاجة والردِّ على الغَيْر! كما قال الشَّاعر:
تَرَاهُ مُعَدًّا لِلْخِلافِ كَأَنَّهُ ... بِرَدٍّ عَلَى أَهْلِ الصَّوَابِ مُوَكَّلُ
وقال الآخر:
رَقِيعٌ خَصِيمٌ فِي الصَّوَابِ كَأَنَّهُ ... بِرَدٍّ عَلَى أَهْلِ الصَّوَابِ مُوَكَّلُ
فالواجب على طلاب العلم فمن فوقهم إذا نَصحوا، فقوبلوا بأمثال هؤلاء، أن يسعهم الصمت والإعراض والصفح الجميل، وليتمثَّلوا قول الشافعي:
أَأَنْثُرُ دُرًّا بَيْنَ رَاعِيَةِ الْغَنَمْ ... وَأَنْشُرُ مَنْظُومًا لِرَاعِيَةِ النَّعَمْ
لَئِنْ كُنْتُ قَدْ ضُيِّعْتُ فِي شَرِّ بَلْدَةٍ ... فَلَسْتُ مُضِيعًا بَيْنَهُمْ غُرَرَ الْكَلِمْ
فَإِنْ فَرَّجَ اللَّهُ الْكَرِيمُ بِلُطْفِهِ ... وَأَدْرَكْتُ أَهْلاً لِلْعُلُومِ وَلِلْحِكَمْ
بَثَثْتُ مُفِيدًا وَاسْتَفَدْتُ وِدَادَهُمْ ... وَإِلاَّ فَمَخْزُونٌ لَدَيَّ وَمُكْتَتَمْ
وَمَنْ مَنَحَ الجُهَّالَ عِلْمًا أَضَاعَهُ ... وَمَنْ مَنَعَ المُسْتَوْجِبِينَ فَقَدْ ظَلَمْ
وَقَالَ أَبُو خَلِيفَةَ الْفَضْلُ بْنُ الْحُبَابِ:
قَالُوا نَرَاكَ تُطِيلُ الصَّمْتَ قُلْتُ لَهُمْ ... مَا طُولُ صَمْتِيَ مِنْ عِيٍّ وَلا خَرَسِ
لَكِنَّهُ أَجْمَلُ الأَمْرَيْنِ مَنْزِلَةً ... عِنْدِي وَأَحْسَنُ لِي مِنْ مَنْطِقٍ شَكِسِ
قَالُوا نَرَاكَ أَدِيبًا لَسْتَ ذَا خَطَلٍ ... فَقُلْتُ هَاتُوا أَرُونِي وَجْهَ مُقْتَبِسِ
لَوْ شِئْتُ قُلْتُ وَلَكِنْ لا أَرَى أَحَدًا ... سَاوَى الْكَلامَ فَأُعْطِيهِ مَدَى النَّفَسِ
أَأَنْشُرُ البَزَّ فِيمَنْ لَيْسَ يَعْرِفُهُ ... وَأَنْثُرُ الدُّرَّ لِلْعُمْيَاِنِ فِي الْغَلَسِ؟!
وقال الشاعر:
فَمَنْ حَوَى الْعِلْمَ ثُمَّ أَوْدَعَهُ ... بِجَهْلِهِ غَيْرَ أَهْلِهِ ظَلَمَهْ
وَكَانَ كَالْمُبْتَنِي الْبِنَاءَ إِذَا ... تَمَّ لَهُ مَا أَرَادَهُ هَدَمَهْ
وقال آخر:
أَقُولُ وَسِتْرُ الدُّجَى مُسْبَلٌ ... كَمَا قَالَ حِينَ شَكَا الضِّفْدَعُ
كَلامِيَ إِنْ قُلْتُهُ ضَائِعٌ ... وَفِي الصَّمْتِ حَتْفِي فَمَا أَصْنَعُ
لكنَّنا نسأل الله - تعالى - أن يعلِّمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علَّمنا، وأن يزيدنا علمًا، وأن يقِيَنا شرَّ أنفسنا، وشرَّ الأشرار، وشرَّ كلِّ دابةٍ هو آخِذٌ بِنَاصِيتِها
وأن يُجَنِّبنا التقوُّلَ عليه - سبحانه - بغيْرِ عِلْم، فإنَّه من كبائر الذنوب، وأعْيَبِ العُيوب، وأمْوَتِ الأشياء لِلْقُلوب.
ويا لَيْتَ الْمَرْء منَّا يتأنَّى في تسطير كلِّ كلمةٍ يكتبها، لئلا يندم حين لا ينفع الندم، قال تعالى:
{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا. اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:13 - 14]
وأن يَحْذَر من أن يرى تَقَوُّلَه على ربِّه في كتابٍ لا يغادرُ صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها، ولاتَ حين مَنْدَم.
قال الجاحظ:
وَمَا مِنْ كَاتِبٍ إلاَّ سَتَبْقَى ... كِتَابَتُهُ وَإِنْ فَنِيَتْ يَدَاهُ
فَلا تَكْتُبْ بِكَفِّكَ غَيْرَ شَيْءٍ ... يَسُرُّكَ فِي الْقِيَامَةِ أَنْ تَرَاهُ
هذا، وَقَدْ يظنّ ظانّ أنّي قسوتُ في العِبارة فِي النُّصْحِ
فَأَقُولُ ما قال شيخ الإسلام في [مجموع الفتاوى 28/ 53]:
"إنَّ المُؤْمِنَ للمؤمِن كاليَدَيْنِ تَغْسِلُ إِحْداهُما الأُخْرى، وقد لا ينقلع الوسخ إلا بنوع من الخشونة، لكنَّ ذلك يوجب من النظافة والنُّعومة ما نحمَد معه ذلك التخشين".
بقلم / خالد عبد المنعم الرفاعي
منقول للفائدة