وقد قدم النبي صلى الله عليه وسلم حفاظ القرآن على غيرهم ممن هم في منزلتهم عدا هذه الخصيصة، فبعد غزوة أحد وهو يدفن الشهداء، والأمر بحاجة إلى إسراع، والعدو لا زال قريبا منهم، وهم جميعا ممن نالوا الشهادة فهم على فضل عظيم وقد شهد لهم بذلك وقال: \" أنا شهيد على هؤلاء \" ومع ذلك كان يقدم في اللحد الأحفظ لكتاب الله كما جاء في حديث البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد ثم يقول: \" أيهما أكثر أخذا للقرآن فإن أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد \"
وكذا في الإمارة في السفر وغيره، وفي إمامة الصلاة.
ثالثها: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لأبي هريرة بالحفظ وعدم تفلت المحفوظ منه، والرسول لا يدعو إلا بخير.
فيما أخرجه البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله إني سمعت منك حديثا كثيرا فأنساه قال ابسط رداءك فبسطت فغرف بيده فيه ثم قال ضمه فضممته فما نسيت حديثا بعد.
وإذا كان قد دعا لابن عباس بالفقه في الدين، فإن هذا الدعاء يشمل الحفظ وزيادة كما أسلفت فلم يكن مجردا عن الحفظ، ونحن نعلم منزلة ابن عباس حفظا وفقها واجتهادا.
رابعها: لا يستوي قلب حافظ واع، وأوراق على الأرفف سطر فيها.
وأدع الإمام الحافظ الفقيه ابن حزم يجيبك عن ذلك حيث أحرق له المعتضد بن عباد من الكتب فقال:
فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي تضمنه القرطاس بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلت ركائبي وينزل إن أنزل ويدفن في قبري
دعوني من إحراق رق وكاغد وقولوا بعلم كي يرى الناس من يدري
وإلا فعودوا في المكاتب بدأة فكم دون ما تبغون لله من ستر
كذاك النصارى يحرقون إذا علت أكفهم القرآن في مدن الثغر
وما قاله الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:
علمي معي أينما يممت أحمله
إن كنت في البيت كان العلم فيه معي
قلبي وعاء له لا قلب صندوق
أو كنت في السوق كان العلم في السوق
خامسها: وهي حكمة لا يدركها إلا أهل العلم وهي:
أن النصوص بينها وشائج صلة، فليس كل نص يعتبر وحدة مستقلة عن غيره من النصوص من حيث الدلالة وإنما يحتاج النصوص بعضها لبعض، ويفسر بعضها بعضا، زمن هنا فمجرد الاطلاع على النصوص من بطون الكتب دون حفظها واستظهارها، وإعمال الفكر فيها يحرم المطلع الذي هذا حاله من استحضارها كلها معا وإعمالها جميعا، والاستعانة في فهمها ببعضها الآخر.
وتوجد طائفة كبيرة من النصوص لا تكاد تنحصر، من النوع الذي لا يستقل بالدلالة بالمعنى وحده، إنما يفهم المعنى بضميمة غيره إليه وهو ما يسميه الأصوليون بالدليل غير المستقل.
ثم إنه لا يمكن القول بأن الناظر في النصوص يطلع على النص، ثم بتقليب الأوراق يستطيع الوصول إلى مخصصه إن كان له مخصص، أو مقيده إن كان له مقيد، أو ناسخه إن كان له ناسخ، أو ما يخرجه من حيز الإشكال إلى حيز التجلي إن كان مجملا، أو القياس عليه عند نزول نازلة تقتضي ذلك؛ لأن هذا الضرب من الأدلة لا يكون متبادر المعنى من أول وهلة، والناس متفاوتون في لمح القرائن والمبينات من النصوص للنصوص وهم حفظة والأدلة حاضرة في الأذهان، فكيف بغير الحافظ.
ولا يتأتى القول هنا بأن السبيل هو ضم الأدلة مع مخصصاتها أو مبيناتها، أو نواسخها، لأنا نعلم يقينا أن ثم تشابك كبير بين النصوص يعسر معه استيعاب ذلك في موضع واحد في الكتب، وإلا لتكررت الآية، أو الحديث عشرات المرات في مواضع مختلفة، والدليل قد يكون واضحا تمام الوضوح من وجه، لكنه من وجه آخر ولدلالته على معنى آخر يحتاج إلى البيان.
وجاء أنه عرضت جارية ولدت بعد الدخول بها لستة أشهر، واستفتي الصحابة في ذلك وهم البعض بالإفتاء بحدها حتى قال عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه: لا حد عليها، لأن القرآن يثبت أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، فقيل له أين تجد ذلك في القرآن، فقال: يقول الله تعالى (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) وقال في موضع آخر (وفصاله في عامين) وإذا كان مجموع الحمل والرضاع ثلاثين شهرا، والرضاع وحده يكون في عامين، تكون أقل مدة الحمل الباقي من طرح أربع وعشرين (مدة الفصال) من ثلاثين (مدة الحمل والفصال معا) فينتج أن مدة الحمل قد تكون ستة أشهر أو إذا كانت فلا يحكم على المرأة بالزنا، وهذه الدلالة عند الأصوليين تسمى دلالة الإشارة، وبعضها يكون أظهر من ذلك وبعضها يكون أخفى من ذلك، وليس هذا موضع بسط ذلك.
وهذا وكثير كثير غيره يجعلني أقول بما قاله المشترطون للحفظ كتابا وسنة كشرط لأهلية الاجتهاد، ولا يكفي إمكان الرجوع إلى الأدلة في مظانها، لأن هذا الاشتراط – وهو القدرة على الرجوع – لا يتحقق في عالم الواقع ونفس الأمر إلا بالحفظ.
وتجد من فتاوى أهل العلم ما يؤكد ما أقول، ثم إنك إذا اطلعت عليها تكون في غاية العجب من البراعة وقوة التمكن من النصوص وحفظها وضم بعضها إلى بعض مع إعمال القواعد وتقديم بعضها على بعض، وترتيب الأدلة، وذلك لاستخراج فتوى في واقعة من الوقائع.
والمقام الآن أضيق من عرض لبعضها ويكفيك لإدراك هذا المعنى أن تنظر في فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية في شأن طواف الحائض للإفاضة إن ضاق عليها الوقت وتعذر عليها المقام في مكة لانتظار الطهر، أو العودة مرة أخرى للطواف ما يقضي العجب، بغض النظر عن الموافقة والمخالفة للنتيجة التي انتهى إليها بحثه عليه رحمة ربي، لكن المهم الإفادة من ضم النصوص والقواعد، وإعمال مقاصد الشريعة والتضلع بما عند الفقهاء من نظائر لهذه المسألة في قضية رفع الحرج.
وأخيرا أقول لإخواني طلبة العلم ما قاله من قبلي:
إذا كان يؤذيك حر المصيف ويبس الخريف وبرد الشتا
ويلهيك حسن زمان الربيع فأخذُك للعلم قل لي متى؟
وإلى لقاء آخر إن شاء الله تعالى لاستكمال عرض شبهات في طريق حفظ الوحيين وردها، والله المستعان وعليه التكلان وهو حسبنا ونعم الوكيل
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وتجدون هذا المقال على هذا الرابط:
http://www.alwahyain.com/mshark/mshar_1.htm
¥