علماً فيعمد العالم إلى وضع كتاب مدرسي يتوخى فيه الاختصار وتقريب المعلومة للتلميذ , بحيث إذا حفظه وفهمه كون لديه قاعدة تعليمية صلبة يستطيع أن يبني عليها ويتوسع من خلالها , وتكون معلوماته مركزة لا مشتته فيحصل للطالب التنقل في مدارج العلم حتى يصل للغاية المبتغاة.
ونرى هذا ماثلاً في كتب الموفق ابن قدامه المقدسي الحنبلي , حيث ألف أربعة كتب في المذهب الحنبلي راعى فيها التدرج من المختصر إلى المتوسط المذهبي إلى الموسوعة المقارنة ببقية المذاهب فألف العمدة ثم المقنع ثم الكافي ثم المغني , وكأن لكل كتاب من اسمه نصيب , يقول الموفق ابن قدامه في مقدمة العمدة: (فهذا كتاب في الفقه اختصرته حسب الإمكان, واقتصرت فيه على قول واحد ليكون عمدة لقارئه , فلا يلتبس الصواب عليه باختلاف الوجوه والروايات) [العمدة مع شرح العمدة، ص 21].
وأما (المقنع) فهو كتاب للمتوسطين أطلق في كثير من مسائله روايتين ليتدرب الطالب على ترجيح الروايات ,فيتربى فيه الميل إلى الدليل , ثم (الكافي) وهو أوسع من المقنع فقد ذكر فيه الأدلة ليتأهل الطالب للعمل بالدليل , ثم كتابه الموسوعي (المغني) فقد أورد فيه المذاهب وأدلتها لتأهيل المشتغل به لدرجة الاجتهاد.فلم يكن الهدف عند المصنفين قديماً أن يكون المختصر هو النهاية إنما جعلوه مرحلة تأسيسية في الطلب حتى ينطلق الطالب بعد ذلك في العالم من قاعدة متينة , فالأساس المتين يؤهل الطالب لأن يكون متيناً في العلم , وعكسه الأساس المخلخل. ومنها ضعف الهمم المتتابع , فبعد ما كان هد ف الأوائل الإمامة رضي من بعدهم بمرتبة تلامذة الإمام ثم ما زالت الهمم في تناقص مما أقلق العلماء الكبار وجعلهم يتعاملون مع هذا الضعف بمصنفات متناسبة حتى لا يؤدي طول المصنفات إلى انصراف الناس عن العلم بالكلية.
يقول ابن الحاجب في مقدمة مختصره الشهير في أصول الفقه (مختصر المنتهى): (فاني لما رأيت قصور الهمم عن الإكثار , وميلها إلى الإيجاز والاختصار صنفت مختصراً في أصول الفقه , ثم اختصرته على وجه بديع وسبيل منيع لا يصد اللبيب عن تعلمه صاد , ولا يرد الأديب عن تفهمه راد) [مختصر المنتهى مع شرحه رفع الحاجب 1/ 229].ويصف ابن الجوزي حال تدهور الهمم في زمانه بكثير من الأسف فيقول: (كانت همم القدماء من العلماء علية, تدل عليها تصانيفهم التي هي زبدة أعمارهم إلا أن أكثر تصانيفهم دثرت لأن همم الطلاب ضعفت , فصاروا يطلبون المختصرات , ولا ينشطون للمطولات , ثم اقتصروا على ما يدرسون به من بعضها , فدثرت الكتب ولم تنسخ. فسبيل طلب الكمال في طلب العلم الاطلاع على الكتب التي قد تخلفت من المصنفات , فليكثر من المطالعة , فإنه يرى من علوم القوم وعلو هممهم ما يشحذ خاطره ويحرك عزيمته للجد , وما يخلو كتاب من فائدة وأعوذ بالله من سير هؤلاء الذين نعاشرهم , لا نرى فيهم ذا همة عالية فيقتدي بها المبتدي , ولا صاحب ورع فيستفيد منه الزاهد , فالله الله عليكم بملاحظة سير السلف , ومطالعة تصانيفهم , وأخبارهم فالاستكثار من مطالعة كتبهم رؤية لهم) [صيد الخاطر ص 366].ورحم الله ابن الجوزي كيف لو رأى زماننا.
ومنها أن يكون بطلب من الخلفاء والأمراء , فقد يحتاج إلى النظر في علم وتشغله مهام الخلافة والسياسة عن التفرغ للعلم فيطلب إلى أحد العلماء أن يضع له ملخصاً في ذلك العلم يجمع له مهماته حتى يحقق أقل قدر منه , وقد يطلبه لنشر هذه الكتب وتقريرها بين الناس عن طريقه. ويذكر الحموي أن الخليفة العباسي القادر بالله تقدم إلى أربعة من أئمة المسلمين في أيامه في المذاهب الأربعة أن يصنف كل واحد منهم مختصراً على مذهبه , فصنف له الماوردي (الإقناع) , وصنف له أبو الحسين القدوري مختصره المعروف بـ (الكتاب) على مذهب أبي حنيفة , وصنف له أبو محمد عبد الوهاب البغدادي مختصراً في المذهب المالكي وقدم له رابع مختصراً في مذهب الإمام أحمد لم يحضره اسمه , فعرضت على الخليفة , فخرج خادم الخليفة إلى الماوردي وقال له: يقول لك أمير المؤمنين: حفظ الله عليك دينك كما حفظت علينا ديننا [معجم الأدباء 15/ 54].
¥