فكأن الخليفة رأى من حفظ الدين أن يطلب من أبرز عالم في كل مذهب أن يؤلف مختصراً في مذهبه ليحفظ به أصول ذلك المذهب وفيه حفظ للدين , وسبحان الله كان المختصر الذي كتب له القبول والانتشار منها هو مختصر القدوري.
ومنها شهرة الكتاب المراد اختصاره ومكانته في ذلك العلم , وقد تتابع اختصارات ذلك المختصر الذي يحظى بدوره بذيوع وانتشار ربما يفوق أصله. فالجميع يعلم مكانة كتاب (الأم) ومؤلفه في الفقه عموماً وفي المذاهب الشافعي على وجه الخصوص. وقد عمد إليه المزني تلميذ الشافعي فاختصره في مختصره الشهير جداً عند الشافعية فأكبو عليه حفظاً ودرساً وشرحاً حتى قيل: كان يوضع في جهاز العروس وقام بشرحه كبار علماء المذهب كالماوردي وأبي الطيب الطبري والجو يني وابن الصباغ وغيرهم , وكان من أعظم شروحه (نهاية المطلب في دراية المذهب) لإمام الحرمين الجو يني , وبلغ من مكانته أن سمي المذهب , وكأنه هو المذهب والمذهب هو , فأختصره تلميذه الغزالي في البسيط واختصر البسيط في الوسيط واختصر الوسيط في الوجيز وجاء الإمام الرافعي فشرح الوجيز في كتابه العظيم فتح العزيز الذي يعتبر النهاية في المذهب الشافعي واختصر الوجيز في المحرر وجاء النووي واختصر المحرر في المنهاج , وقد حظي المنهاج بشهرة عظيمة فاقت أصله فأكب عليه علماء الشافعية درساً وحفظاً وشرحاً واختصاراً وأصبح هو وشروحه العمدة في الدرس والفتوى , وممن اختصره زكريا الأنصاري في المنهج , فقيل اختصر الكتاب واسمه.
ومنها قلة ذات اليد لدى كثير من طلاب العلم فيختصر لهم الكتاب ليكونون اقدر على شرائه بالإضافة لندرة الورق والاعتماد على النساخ , فا الكتاب الكبير يستهلك أوراقا ً كثيرة وأوقاتاً طويلة في نسخه ويكون ثمنه باهظا , بعكس الكتاب الصغير.
ومنها مسايرة طبيعة الحركة العلمية , فقد يؤلف العالم المختصر لهذا الغرض فالطوفي مثلاً حينما اختصر (روضة الناظر) للموفق ابن قدامة في كتابه (البلبل) كان مجاراة للحركة العلمية مع أنه لم يكن مقتنعاً بأمور كثيرة في (الروضة) منها طريقته في الترتيب , ولكن لأن الحركة العلمية مهتمة بهذه النوع من التأليف اختصر كتاب (الروضة) لشهرته بين كتب الأصول عند الحنابلة [انظر مقدمة الشيخ عبد العال عطوة لشرح مختصر الروضة للطوفي 1/ 13].
ومنها إظهار البراعة في التأليف , ومعروف أن اختصار الكلام أصعب من الإسهاب فيه فيتبارى المؤلفون في وضع المختصرات القليلة الألفاظ الكثيرة المعاني وكلما كان أقدر على الاختصار نال هو ومختصره المكانة العالية , وعندما اختصر ابن الحاجب مختصرا الإحكام للآمدي في كتابه (منتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل) تعجب العلماء وطلاب العلم من براعته الفائقة في الاختصار مع الاحتفاظ بالمعنى , فلما بلغه تعجبهم قال سأزيدهم عجباً , فاختصره في مختصره الشهير جداً في أصول الفقه المسمى (مختصر المنتهى) قال ابن كثير: وأصبح كتاب الناس شرقاً وغرباً وقد من الله علي بحفظه.وكان لتوقف الاجتهاد بما يسميه البعض قفل باب الاجتهاد وانتشار المذاهب وطغيانها وميل المتأخرين إلى المحافظة على علوم المتقدمين والمنافسة في ذلك وإغفال الإبداع أثر في وضع التأليف المختصرة التي تحفظ علوم السابقين.
وقد اختلفت المواقف حول المختصرات ومدى صلاحيتها في المناهج التعليمية وأثرها على التفكير سلباً أو إيجاباً.
فابن خلدون عابها بشدة في مقدمته فقال: (ذهب كثير من المتأخرين إلى اختصار الطرق والإنحاء في العلوم يولعون بها ويدونون منها برنامجاً مختصراً في كل علم يشتمل على حصر مسائله وأدلتها باختصار في الألفاظ وحشو القليل منه بالمعاني الكثيرة في ذلك الفن , وصار ذلك مخلاً بالبلاغة وعسراً على الفهم , وربما عمدوا إلى الأمهات المطولة في الفنون للتفسير والبيان فاختصروها تقريباً للحفظ كما فعله ابن الحاجب في الفقه وأصول الفقه وابن مالك في العربية والخونجي في المنطق وأمثالهم وهو فساد في التعليم وفيه إخلال بالتحصيل , وذلك لأن فيه تخليطاً على المبتدئ بإلقاء الغايات من العلم عليه وهو لم يستعد لقبولها بعد وهو من سوء التعليم. كما أن فيه مع ذلك شغل كبير على المتعلم بتتبع ألفاظ المختصرات تجدها لأجل ذلك صعبة عويصة , فيقطع في فهمها خطاً صالحا من الوقت, ثم بعد ذلك
¥