تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وكانوا في البداية يَحْتَرِزُون منَ الاسترسال في كتابة العلم، والاستغراق فيها؛ إجلالاً وصَوْنًا لكتاب الله أن يَخْتَلِطَ به غيرُه، فلما اطْمأنُّوا لذلك، وجُمع القرآن الكريم، بدأت كتابة الحديث والعلوم الشرعية باستفاضة، وانقسم العلماء والمتعلِّمون إلى مجموعات شَتَّى؛ فمنهم من صَرَفَ هِمَّتَهُ للقرآن الكريم، ومعرفة حروفه وعلومه، ومنهم منِ انصرف لكتابة الحديث، ونَقْد متونِهِ وأسانيده، ومنهم من أعمل فِكره في استنباط المعاني والأحكام والآداب، من نصوص القرآن العظيم، والسنَّة المُطَهَّرَة؛ ونتيجةً لذلك: فقد أصبح لكل فنٍّ رجالُه؛ مما أدى لتمايُز التخصصات بحكم اتِّساع الخِضَمِّ العِلْميِّ، وفي ذلك روى الخطيب البغداديّ عنِ الأعمش، أنه سأل الإمامَ أبا حنيفة - رحمهما الله - عن بعض المسائل، فأجابه بما لم يَدُرْ في خَلَدِهِ، فقال الأَعْمَشُ: مِنْ أين لكَ هذا؟ فقال أبو حنيفةَ: أنتَ حدثتنا عن إبراهيم بكذا، وعن الشَّعْبِيِّ بكذا، فكان الأَعْمَشُ بعد ذلك يقول: "يا معشر الفقهاء: أنتم الأطباء، ونحن الصَّيادِلَة" [6] ( http://www.alukah.net/Articles/Article.aspx?ArticleID=2248#_ftn6).

وعَرَفَ النَّاسُ حلقات العِلْمِ، وجِلْساتِ المُذاكرة، والإملاء، والمُقابلة، والتصحيح؛ منذ وقت مُبكِّر، ونتَجَتْ عن هذه المُمارسة بُرُوزُ الضَّوابِطِ المتِينة، والقواعد الدَّقيقة، والرموز والمصْطَلَحات لكتابة العلم والمعرفة، وهو ما بَرَهَنَ على تَمَيُّز هَذِه الأُمَّة بِجَوْدَة أصولها المعرفية، وقد أراد الله - سبحانه وتعالى - لها ذلك؛ لتشريفها بمسؤُوليَّة حِفْظ الدّين الخاتم، الذي قال الله - جلَّ وعلا - فيه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [7] ( http://www.alukah.net/Articles/Article.aspx?ArticleID=2248#_ftn7). فامتازتِ الأمَّة المسلمة بحِفْظ القرآن الكريم، وتمييزِهِ عن سائر الكلام، بما فيه الكلام المنسوب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ثم تمييز كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كلام الصحابة والتابعين، وقد كانتِ الأُمَم قبلها لا تُمَيِّز كلام الله تعالى عن أقوال الأنبياء، ولا أقوال الأنبياء عن أقوال الأحبار والعلماء، فكان تَفْريطُهم في ذلك سببًا من أسباب التحريف، والتبديل في الأديان السابقة.

وكانتِ الكتابة في القُرون الأولى يدويَّةً، وأدواتها مَعْرُوفة، ولها رُموزٌ مُتداوَلة بين أهل الاختصاص، وقد اهتمَّ العلماء منذ عهود مَضَتْ بتأليف الكُتب، التي بَيَّنَتْ قواعدَ وضوابطَ وآدابَ الكتابة والنَّقْل، وأعقب ذلك بعضُ الكتابات التفسيرية، التي فسرتِ الرَّمز، وكشفت عن المُعَمَّى من هذه القواعد والضوابط؛ فأخَذَتْ هذه الشروح بمجَامع ألباب المُستشرقين، فعَكَفُوا على دراستها، واستطاعوا من خلالها الدخول لتُراثِنا، فكأن مشاركاتهم في القرنينِ الماضيينِ قد أدْهَشَتِ البعض منَّا، لأنها كانت مبنيَّة على تلك الضوابط والقواعد، وليس هذا إدعاء تَنْقُصُهُ البراهين، وإنَّما هو حقيقة تؤكدها الدَّلائل؛ ومن ذلك:

ضَعْفُ وَثَاقَةِ النصوص في ثقافاتِ ومعارفِ المستشرقينَ؛ قديمِها وحديثِها؛ بل في ثقافاتِ ومعارفِ غيرِهم منَ الأُمَم الأخرى؛ كما يدل على ذلك أيضًا الجَوْدة العالية التي بلغتها كُتُب التوثيق، والدَّلالة عند أسلافنا، فلو قارنَّا بين أعمال المستشرقين الدقيقة هذه، وبين جُهود المسلمين التي سبقَتْها لعرفنا قَدْر أنفسِنا، ويمكن المقارنة بين كتابَيْ: "مِفتاح كنوز السنة" الذي وضعه الدكتور/ أ. ي. فنسنك، ونقله للعربية الأستاذ/ محمد فؤاد عبدالباقي، و"الجامع المفهرس لألفاظ الحديث النبوي الشريف"، الذي وضعه الدكتور أ. ي. فنسنك أيضًا بالاشتراك مع جماعة من المستشرقين -باعتبارهما من كُتُب الدَّلالة على مواضع الرِّوَايات - من ناحية، وبين كتاب "تحفة الأشراف" للحافظ أبي الحجاج المِزِّيِّ (ت742هـ)، وكتاب "إتحاف المهرة" للحافظ ابن حجر العَسْقَلانيِّ (ت852هـ)، باعتبارهما من كُتُب الدَّلالة أيضًا -: لَعَرَفْنا الفَرْق؛ فكتاب "مفتاح كنوز السنة"، وكتاب "الجامع المفهرس"، وُضِعا فقط للدَّلالة على مواضع وجود الألفاظ، وقد قضتْ عليهما التقنية الحديثة، وفقدا قيمَتَهُما، بظهور الأقراص المُدْمَجَة،

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير