وأخرجه ابن عدي في "الكامل" (3/ 430، و439): من طريق زكريا بن يحيى، ثنا سيف بن هارون - أخو سنان بن هارون - عن الحسن بن عمرو، حدثني أبو الزبير، عن عبدالله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. قال ابن عدي: "وهذا الحديث هكذا يروى عن الحسن بن عمرو، عن أبي الزبير، عن عبدالله بن عمرو، ومن قال: عن جابر، فقد أغرب، وقد روي عن أبي الزبير، عن عمرو بن شعيب، عن عبدالله بن عمرو ... " اهـ.
وأخرجه العُقَيْلِيُّ في "الضعفاء" (4/ 290): من طريق عن مجاهد، عن عبدالله بن عمر، بضم العين وفتح الميم، به.
وبالنظر إلى ما وقع في هذا الحديث من فروق في الروايات، يتضح أن منها ما وقع على أصل الرواية، ومنها ما وقع بسبب تشابُه الرسم، فكان جميع ذلك من أوهام الرواة والنُّساخ.
المثال الحادي عشر:
أخرج الطَّبَرَانِيُّ في "المعجم الكبير" (المجلد الثالث عشر برقم 14508 - في طبعة الجريسية): حدثنا معاذ بن المثنى، ثنا مسدد، ثنا يحيى بن سعيد، وحدثنا إدريس بن جعفر العطار، ثنا روح بن عبادة، ثنا حسين بن المعلم، عن عبدالله بن بريدة، عن أبي سبرة، حدثني عبدالله بن عمرو، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله - عز وجل - يبغض الفاحش والمتفحِّش، ولا تقوم الساعة حتى يظهر الفُحْشُ والتَّفحُّش، وسوء الجوار، وقطيعة الأرحام، وحتى يؤتمن الخائن، ويخوَّن الأمين، ألا إن مَوْعدَكم حَوْضي؛ عرضه وطوله واحد كما بين أَيْلَةَ ومَكَّةَ؛ مسيرة شهر، فيه أباريق مثل الكواكب، شرابه أشد بياضًا من الفضة، من شرب منه مشربا لم يظمأ بعده أبدًا)).
وأخرجه الإمام أحمد (2/ 162 - 163 رقم 6514)، وابن أبي عاصم في "السنَّة" (701) كلاهما من طريق يحيى بن سعيد، به، وذكر في أوله عن أبي سبرة قال: كان عبيدالله بن زياد يَسأل عن الحوض؛ حوض محمد - صلى الله عليه وسلم - وكان يكذب به بعد ما سأل أبا بَرْزَةَ، والبراء بن عازب، وعائذ بن عمرو، ورجلاً آخَرَ، وكان يكذب به، فقال أبو سَبْرَةَ: أنا أُحدِّثك بحديث فيه شِفاء هذا؛ إن أباك بعث معي بمال إلى معاوية، فلقيت عبدالله بن عمرو، فحدثني مما سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأملى علي، فكتبت بيدي، فلم أزد حرفًا، ولم أنقص حرفًا؛ حدثني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله لا يحب الفحش ... الحديث))، ولم يذكر ابن أبي عاصم الحديث بتمامه.
وأخرجه البَيْهَقِيُّ في "البعث والنشور" (172) من طريق محمد بن إسحاق الصغاني، عن رَوْحِ بن عُبادةَ، به.
وأخرجه المَرْوَزِيُّ في زياداته على "الزهد" لابن المبارك (1610)، والحاكم في "المستدرَك" (1/ 75) من طريق ابن أبي عدي، وقرن الحاكم رواية أبي أسامة مع رواية محمد بن أبي عدي؛ كلاهما عن حسين المعلم، عن عبدالله بن بريدة، ذُكر لي أن أبا سَبْرَةَ بن سلمة، سمع ابن زياد يسأل عن الحوض ... فذكره هكذا بذكر واسطة مبهمة بين عبدالله بن بريدة وأبي سبرة. ومن طريق الحسين المروزي رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (20/ 43)، به.
وقد سقط لفظ (أن) من جملة (ذكر لي أن أبا سبرة) من مخطوط كتاب "الزهد" لابن المبارك وزياداته، فاجتهد الشيخ حبيب الرحمن الأَعْظَمِيُّ في إزالة هذا الإشكال فتصرف في الإسناد وأثبته هكذا: "ذكر لي أبو سَبْرَةَ"، وعلَّق عليه بقوله: "هذا هو الظاهر، وفي الأصل: (أبا سبرة) ". اهـ.
قلت: وهذا يدل على سقوط لفظ: "أن" من جملة "ذكر لي أن أبا سبرة". وهو موجود في "مستدرك الحاكم".
وإذا لم يكن لزامًا على المحقق أن يُخرِّج كل النصوص، فإنه يصبح من المهم جدًّا أن يُخرج النصوص التي يواجه فيها اختلافًا في الأسانيد، والألفاظ، والعبارات، كما يلزمه الرجوع للكتب التي اهتمت بالتصحيفات، والكتب التي اعتنت بالمؤتلف رسمًا، والمختلف نطقًا، كالكتب التي تقدمت الإشارة إليها.
ويتبين من الأمثلة أعلاه أن التعامل مع النصوص يتطلب كثيرًا من الدُّرْبَة، والدِّقَّة، والحَذَر، وأن المتأخرين بتوخي الدقة والتركيز؛ يمكنهم أن يرتقوا مراقِيَ السابقين، مهما كانت وَعِرَةَ القنن. ولعل النظر والوقوف على مسالك الأقدمين في تقييد العلم وكتابته يكون سببًا من أسباب تحصين تراثنا من التحريف.
وعلى الله قصد السبيل، وبه البلاغ، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
¥