البيد ترقص من لحنه! فالبيد جمع بيداء وهي المفازة، وإن تجاوزنا عن غرابتها فلن نجد لها بعدا نفسيا عند الشاعر فيظهر في نصه أو عند المتلقي فيتأثر بها، فالصورة الشعرية تتكون من بُعْد حسي وبعد وجداني، ثم إنني أرى انفصالا بين شطري البيت وكأنهما بمعزل عن بعضهما، وآية ذلك أنك لو وضعت العجر مكان الصدر لاستقام الكلام والوزن والقافية وما شعرت من فرق، بل وربما استحسنته.
البيد كلمة شعرية اتخذها شعراء العصر الحديث رمزا لاحقيقة .. ولم أكن أعني المعنى السطحي المتبادر إلى الذهن وهو أن الصحراء ترقص من لحنه وإنما أقصد أن شعره تغنى به كل مكان حتى البيد المقفرة الجافة وصلها شعره والخبر يخرج عن معناه الحقيقي في مواضع بلاغية كثيرة وللمتنبي نغمة لذيذة متميزة حينما يتحدث عن غربته وليله وبيدائه .. أما التقديم والتأخير الذي ارتأيتَه فلاأراه لأن المناسبة مناسبة فرح مناسبة عيد والتغريد هو المقصود الذي جاءت إليه القصيدة فالأولى تقديمه لمناسبة زمن القصيدة .. والذي أهدف إليه منذ بداية القصيدة هو تغيير تلك النظرة التشاؤمية التي رسمها لنا المتنبي عن العيد ... لقد مكث الشعر بعد المتنبي مئات السنين وهو يردد في كل عيد: عيد بأية حال عدت ياعيد ... أليس من حقنا أن نغير الصورة وننظر إلى الوجه المشرق .. هذا ماكنت أقصده .. أما قولك "لاستقام الوزن" فلا أظنك تقصد عكس ذلك لأنها موزونة تقديما وتأخيرا فلا أرى داعيا لكلمة الوزن في حديثك ..
لفظة (ازرع) غير مناسبة للمعنى المراد، وإنما يوافقك لفظة كـ (انثر)، أما الزرع فشيء آخر لا يحسن هنا، فالزراعة تستدعي دلالات لا تناسب المعنى كالفلاحة و المشقة والجهد وانتظار الثمر وتعهده ...
أشكرك لكن في نظري أن "ازرع" مناسبة للبقاء الزمني الذي أعنيه هنا والذي يتوافق مع كلمة " الأجيال" مما يحمل بعدا مكانيا وزمانيا طويلا يتناسب مع طبيعة الزرع التي تبقى فترة طويلة أما النثر فلاتلبث أن تتلاشى وتزول .. أريد قافية باسمة تتغنى بها الأجيال في أعيادها ..
ألم تقل: قافية ما مسها أبدا هم وتسهيد! إذن كنا نتوقع قافية مفعمة بالفرحة والسعادة والسرور لا دمع فيها ولا خيانة (لكنَّ عَيْنَكَ خانَتْها المَواعِيدُ) ولا وجع ولا أوجاع؟! لو لم تشترط على نفسك لكان في الأمر سعة، لاسيما وقد أبَّدْتَ الكلام وأكدته بلفظة (أبدا).
بالعكس ياأخي البيت منسجم تماما مع البيت الذي قبله .. نعم أريد قافية مامسها أبدا هم وتسهيد ثم علَّلْت له طلبي ذاك بأن العيد عينه تفرح لاتبكي ولاتدمع فالعيد كله ابتسامة وفرح لكن عين المتنبي وحدها هي التي بكت لاعينُ العيد .. بكى المتنبي حين خانته آماله ومواعيده التي كان يطمع من خلالها أن ينال عند كافور شيئا يفرحه .. أرجو أن تعيد قراءة البيت بعد هذا التوضيح سيظهر لك المعنى الذي أقصده وهو مواصلة الفرحة والسعادة وترك الدموع لأن عين العيد لاتدمع ..
هل تلك الكلمة بهذا المعنى وهذه الصيغة فصيحة؟
لاأرى فيها بأسا فـ " تفعيلة" تجمع على " تفعيلات" و" تفاعيل" ومثل ذلك " تسبيحة" تسبيحات وتسابيح وترتيلة ترتيلات وتراتيل وتفعيلة الشعر تفعيلات وتفاعيل .. ومايجمع جمعَ مؤنث سالما يجوز جمعه جمع تكسير ..
البيت الثاني والثالث استطراد وحشو خارج وحدة القصيدة؛ لقد قلت في البيت الأول ما معناه: إن كان كافور منعك فإن قريتي المعروفة بالبذل العطاء ستمنحك، ثم قلت إنها مشهورة بالشعر فما علاقة ذاك بذاك؟ أم إن قريتك ستمنح ربَّ الشعر (المتنبي) شعرا؟!! ثم كيف تفخر بأن قومك شعراء في حضرة المتنبي وأنت تخاطبه؟! هل ستبذلون له العطاء أم ستفخرون عليه؟!
لاأقصد ياأخي شيئا مما ذهبت إليه , ولا أرى في الأبيات حشوا وعلاقة الثاني بالأول أن قريتي تعرف الشعر وتعرف غثه من سمينه وتقدر قائليه والمتنبي هو رب الشعر فعلا فلذلك قريتي لن تخذله كما خذله كافور بل ستمنحه مايشتهي ومايريد لأنها قرية تعرف مكانة الشعراء وتنزلهم منازلهم العظيمة فأهلها كلهم شعراء صغيرها وكبيرها .. فالبيت ياعزيزي فيه تلطف مع المتنبي سيد الشعر وفيه اعتذار إليه عما بدر من كافور الذي لم يقدر شعر المتنبي ولم يعطه شيئا لكن قريتي التي تعرف الشعر سوف تجعل المتنبي ملكا عليها وستجعله يتربع عرشها .. ويحك ياجلمود أو مثلي يجرؤ على انتقاص شاعر كالمتنبي؟ إنني أعطيه المكانة التي تليق به كشاعر ولو جاءنا المتنبي اليوم لجعلتْه قريتي أميرا عليها ..
رأيتُ هذا الطائر في بيتي المقدمة، ثم بحثتُ عنه اثني عشر بيتا فلم أجده، كنت أظنك ستناجيه وتناغيه وتنادمه، لا أن تتخذه وسيلة متكلفة للبدء والختام دون علاقة بالقصيدة.
بل القصيدة كلها من أولها إلى آخرها حديث مع المتنبي وملاطفة لذات المتنبي المتغطرسة العظيمة الجبارة .. إنك لو استشعرت شعوري وأنا أعارض المتنبي لقد كنت رحمتني والله , لأنني أمام شاعر عملاق بل أمام رب الشعر كما وصفته أنت .. فكنت ألاطفه بهدوء حتى لايغضب علي وأطلب منه قافية مغردة في يوم العيد لاقافية باكية
ولقد جاء البيت الأخير خاتمة لتلك الملاطفة التي أسررتها وأعلنتها في أبيات القصيدة لأصل أخيرا إلى الاعتذار إلى سيد الشعر إن كنت قد أزعجته بحروفي إن ما طلبته منه هو أن يبتسم فقط في يوم العيد لأن العيد أنشودة جميلة يرددها الكون ..
ورغم هذا وذاك إلا أنني أشيد بكل ماذكرتَه أخي جلمود من ملحوظات لاتغض منها تعليلاتي , لكنه الشعر ياأخي وماأدراك ماالشعر؟ أطياف تحلق في الخاطر لا نرسم منها إلا القليل القليل وأكثرها في زحمة هذا الزمن يطير ولايعود , فاعذر حرفي إن قصَّر عن ذوقك وأذواق القراء فإنما نحن تلاميذ صغار عند المتنبي , وماهذه إلا رسالة من تلميذ إلى أستاذه في يوم عيده ..
لك ودي وأكثر ..
¥