[عندما كنت في الجنة]
ـ[أبوالشمقمق]ــــــــ[03 - 10 - 2008, 04:28 م]ـ
(ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)
قد تتعجبون من العنوانِ كتعجُبي من هذه القصة التي سمعتُها من امرأةٍ عجوز ٍ ماعهدتُ عليها كذباً، قد عُرِفت بصدقِ القولِ، وطهارةِ النفسِ، وحُبِّ الخيرِ، فلو أنّ الملائكةَ يعيشونَ بيننا لقلتُ بأنها مَلَكٌ تمثلَ في صورةِ إنسيّ، ولو أنّ الخيرَ تجسدَ في صورةِ بشر ٍ لتجسدَ في هيئتها.
تقول العجوز، أن هذه القصةَ حدثت قبل أكثر من سبعين سنة وسأترُكها تحكي لكم:
في تلك الخيمةِ الصغيرةِ المتهالكةِ كانت تعيشُ امرأةٌ محبةٌ للخيرِ، رحيمةٌ بالفقراءِ والبائسين، تبذُلُ ما في يدها لهم، وتَقسِمُ لُقمَتَها بينهم، فلو أنّها تستطيعُ التصدقُ بعمرِها لفعلت.
وقد ابتلاها اللهُ بزوجٍ ٍ شديد البخلِ، دنيء النفسِ، لئيم الطباع، كان على النقيضِ منها تماماً وقد تَجمَعُ الحياةُ أحياناً بين النقائضِ والأضداد!!
وكثيراً ما كان المسافرون ورُعَاةُ الغنمِ يمرون بهذه الخيمةِ فيطلبون شَربَتَ ماءٍ تُطفِئ عطشَهم وتَبُلُّ عروقهم، فكانت هذه الرحيمةُ تركض ُفرحةً لتسقيهم فيمنعها زوجها اللئيم من ذلك وحُجتُه التي يحتجُ بها دائماً هي قلة الماء وشحه وندرته!!
فكانت كلما أوت إلى فِراشها تبكي حزناً وحرقة ً، فلو نظرتَ إلى عينيها وقد استحالت حمراءَ من شدةِ البكاء فكأنّك تنظرُ إلى جمرتين في ظلام
وتعرفون أنّ النفسَ الكريمةَ لا تعرِفُ سِوى الإنفاق، فكما أنّ السمكَ يموتُ إذا اُخرج من الماء، فإنّ الكرماءَ يموتون إذا مُنعوا العطاء
فكرت هذه المرأةُ البائسة ُ بطريقةٍ للتصدق تنال بها رضا ربها وتَأمَن شر زوجها فدلها عقلها على أن تصنع قربة ً صغيرة ًوتملؤها بالماء دائماً فإن جاء طالبٌ يطلبُ ماءً سقته فنفذت فكرتها ونجحت في ذلك.
بقيت هذه المرأةُ الرحيمة ُعلى فعلها هذا سنين طوال حتى حدث ما لم يكن بالحسبان!!
كانت في خيمتِها، وقد جلست بين أبنائها وزوجها، وقد وضعت صغِيرها في حِجرِها تُلاعِبُه وتُدَاعِبُه وتُنَاغِيه، تشُمُّهُ وتضمُّه وتُقبله، فكان طفلها يضعُ يدهُ على خدِها ثم يُمسِك بخصلات شعرِها فتضحكُ من فِعلِه وبَراءتِه لكنّ المنية َ كانت أقرب إلى جسدها من ولدها تداعب روحها بأيديها الخفية
فبينما هي على هذا الحال إذ سقطت فجأةً مغشياً عليها فكان أمرُ الله ولا راد لأمره
سقطت هذه المرأة ُوقد كانت بين أبنائها وزوجها، سقطت وقد كانت تحتضنُ طفلها، سقطت فكانت لحظة الموت، سقطت فكانت لحظةُ الوداع وأي وداعٍ ٍ كهذا؟؟!!!
ولك أن تتخيلَ ذلك الموقفُ، موقفٌ رهيبٌ عصيب، صُرَاخٌ وعويلٌ ونحيب وبكاءٌ لا ينقطع
تبدَّلَ ذلك الجو من سعادةٍ إلى شقاءٍ أبدي
إلتفَّ الزوجُ وأبناؤه حول هذه المرأة المسكينة، فهذا يُمسك يدها يجس النبض،وذك يضعُ أُذنه على صدرها عَلّهُ يسمع خفقة ً تُكذِّب ما تراه عيناه ولكن دون جدوى
لقد استحال ذلك الجسدُ الحي الطاهرُ إلى جثةٍ هامدةٍ لا أثر للحياة فيها،تَبَدَّلَ لونُها إلى زُرقَةٍ و بَرَدت أطرَافُها فكأنّها الثلجُ، وهل هذه العلامات إلا شاهداً آخرَ على الرحيل فإنا لله وإنا إليه راجعون
لقد أُصيب كل من عرف تلك المرأة بالذهول فلو أن الناسَ يدفعون عن أنفسهم الموتَ بأعمالهم لدفعَ عملُها الطيبُ الموتَ عنها
لقد بكاها الفقراءُ قبل الأغنياء وفقدها الغريبُ قبل القريب ولكنّها سنةُ الله ولن تجد لسنة الله تبديلا
قامت أمها وأخواتها بغسلها وتكفينها والدموع تسيل من أعينهم فلا تعلم أُغسلت بالماء أم بالدمع، فما فرغوا من تجهيزها إلا بعد صلاة العشاء فقرروا أن يصلوا عليها الفجر ثم يدفنوها
وضعوها في خيمتها ثم اخذوا أبناءها وتركوها وحيدة ًفي خيمتها لا أحد عندها سوى زوجها
كان الزوج يجلسُ بالقربِ من الجثة فيُعرَض في مخيلته شريطٌ من الذكريات فيذكر أيامه كلها مع زوجته الطيبة والعجيب أنّهُ لم يجد شيئاً سيئاً يشوه جمال هذا الشريط
حاول أن ينام وهيهات هيهات، فأنّا للقلبِ المكلومِ وللطرف ِالمحزونِ أن ينام وكيف ينامُ وقد استحال كل شيءٍ أمامه إلى سواد فكأنّ القمرَ لم يطلع وكأنّ النجومَ لا تضئ
¥