((رجلٌ من الجاهليَّة))
ـ[ياسر البهيجان]ــــــــ[28 - 11 - 2008, 01:36 م]ـ
- كنت واقفاً في ذلك المكان!!
إذ بموج من الغبار قد ركب بعضه فوق بعض ,أيقنتُ منذ الوهلة الأولى أنه لا محالة مدركي , أصبح نهاري
ذو الشمس الحارقة ليلاً حالكاً أتعبه فقد بدره المضيء , وتحوّل ذلك الصفاء الذي كنتُ أجده في كبد السماء
إلى عتمة تساوى بها البصير والضرير , تلمستُ جسدي بكلتا يديَّ خشية أن تغدر دار الفناء بي, فلطالما هددتني
وتوعدتني بأني سأكون يوماً من الأيام قرباناً تتقرب به إلى دار البقاء.
-بينما أنا في شغل مع نفسي إذ بصوت غضٍّ يُنشد قائلاً:
ينادونني في السلم يابن زبيبةٍ = وعند صدام الخيل يابن الأطايب
راعني أصوات القنا وهي تتقارع ,كرعد يهدر غاضباً بعد تَمَنُّع القطرة تمكينه نفسها ,لم تزل السيوف يُقبل
بعضها بعضاً , ولم يزل ذلك الرعد عاكفاً بين أحضان القطرة مراوداً لها , حتى بدأ الغبار يُعاود أدراجه وخيوط
الشمس تبرق ثناياها بعد تجهم طويل.
- أريج الدم قد عطَّر أرجاء المكان , تلك القفراء الجرداء زُخرفت بالرؤوس والأشلاء ,أجول بمقلتيَّ متفحصاً
المكان كطبيبٍ أعياه معرفة داء مريضه بينما المريض يتأوَّه بين يديه ,رأيتُ صنماً ضخماَ في هيئته أسود الجبين
لم أكترث لذلك السواد فالأصنام عادة ما تصنع من التمور , صُفعتُ عندما رأيت بياض عينه يتحرك وكأني بهِ
يصطرخ بعد أن ضاقت المحاجر به ذرعا ,قامةٌ خلتُ أنها بقية من بقايا أعجاز النخل الخاوية , فمالي اليوم أرى
لها باقية؟
- رأيته حاملاً صارماً منظرهُ كفيلٌ بإذابة القلوب المتحجرة ,وإذهاب العقول الماكرة ,لكنني آنذاك تجلدتُ تجلد
الثكلى التي فُجعت بفقد واحدها , واسيت نفسي بمواقف أحسب نفسي فيها شجاعاً مقداما ,أقترب مني قليلاً حتى
شعرتُ بأن سواده ما هو إلا سوادي بيد أن سؤدده لم يكن كسؤددي عندما شعرت بأن أقدامي تُوشك أن تُعلن
فرارها يوم الزحف دون أن تبالي بعد ذلك بالعذاب الذي يجنيه ذلك الفرار وقعت عيني على أصابعه التي حسبتها
كثباناً رملية أسدل الليلُ عليها ستاره السرمدي ,قبض بأصابعه قضيبُ الصارم فأيقنتُ أن تلك اللوحة التي رسمها
من الأجسام الممزقة كان ينقصها جسدٌ قمحيٌ كي يضفي على اللوحة تلك اللمسة السحرية الآسرة , رفع سيفه
قاصداً إكمال لوحته , فأغمضت عيناي ثم أطبقت أسناني خشية أن تُكسر رباعيتي أو تثلمُ ثنائيتي فأهيم ناطقاً
السينَ ثينا.
- طال انتظاري لوقع ذاك الحسام المهند الذي تعطش عنقي كمداً لفراقه فاستبطأ المعانقة الحميمة ,بأجفان متثاقلة
فتحتُ عينيَّ بحذر شديد وقد طأطأتُ رأسي , أول ما وقعت عليه عيني ذلك الصارم وهو مجندلٌ في التراب,
رفعتُ رأسي كي أنظر ما حالُ ذلك الضرغام الأسود ,رأيت دموعاً قد انهمرت على تلالٍ سوداء حلَّت محل
وجنتيه ,راودني شعورٌ أن تلك الدموع السيَّالة ما هي إلا تكفيراً منه عن الأنفس التي قد أزهقها بمداعبته لها
كما يزهق القط أرواح الأفراخ حينما يداعبها.
- رأيت بصره شاخصاً نحو امرأة ما رأيت إشراقاً كإشراق صباحها ,ولا مساءً كمساء ضفائرها ,ازدريت بعدها
نساء العالمين , أعدت النظر إلى ذلك الضرغام إذ هو حمامة وديعة تُتمتم بكلام, أنصت إليه فسمعته يقول:
لعوبٌ بألبابِ الرجالِ كأنَّها = إذا أسفرت بدرٌ بدا في المحاشدِ
شَكَتْ سقماً كيما تعاد ومابها = سوى فترةِ العينينِ سُقمٌ لعائدِ
من البيضِ لا تلقاك إلا مصونةً= وتمشي كغصن البان بين الولائدِ
- كنتُ قد حفظتُ هذه المقطوعةِ قبل أن يُقلمَ الدهرُ أظفار طفولتي , وعلمتُ حينها أن ذلك الأسود ابن زبيبة ما هو
إلا عنترة العبسي وما تلك الفتاة التي سلبت عقلي وعقله إلا عبلة التي كان يهيم بها أبو الفوارس حين قال:
ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ = مني وبيض الهند تقطر من دمي
وكنت قبل اليوم أطيل معاتبة عنترة وتعلقه الشديد بامرأة لم تخلو الدنيا من أترابها ,وبعد أن رأيت ما رأيت أخذت
على نفسي عهداً ما دامت الروح في غرام مع جسدي , ألا أعاتب محب قد أدام مطال الجوع لفقد حبيبه أو أجرى
لأجل ذلك غدران البواكي.
- سوَّلت لي نفسي الأمارة بالسوء أمراً أحقق من خلالها ما يطمح المحب تحقيقه من حبيبه ,استوقفت عنترة وقلت
له متغابيا:
*هل تلك الفتاة هي من تسمى عبلة؟
¥