نظر إليَّ نظرة ازدراء حتى تحدثت عيناه قائلة: وما يعنيك يا غريب الأهل والدار؟
آثرت تغيير حلقة الحوار كي لا يزداد الأمر سوء والطين بلةً ,وباغته بسؤالٍ يعطيه ثقة أكبر بي:
* هل في بني عبس أشعر منك؟
* بل ليس في العرب من يجرؤ أن يكون أشعر مني.
* لكنني قد أكون ذلك الرجل (بابتسامة كدّر صفوها عتمة المصير)
أطال النظر إليَّ ثم ضحك ضحكة شعر بأن الأرض تمارت بي , ثم قال:
* حسناً ,ومن الحكم يا غريب؟
* خير حكمٍ بيني وبينك هي تلك الفتاة (مشيراً إلى عبلة)
* ثكلتك أمك يا غريب , لولا حق الضيافة التي أثقلت كاهلي ,لجعلت رأسك غداءاً للغربان ومحاجرك مخابئ
للجرذان ولكن لك ما طلبت , وسنرى لمن عقب الدار!.
- كانت عبلة تستقي عن ذلك البئر ,ما إن رأتنا حتى حدقت بي وقد علاها الاستغراب , يبدو أن منظري حداثياً
وكل ما حولي موغلٌ بالقدم ,أخبرناها عن سبب مجيئنا إليها ,ابتسمت ابتسامة شعرت بعدها أن الأبجدية العربية
تبدأ من الياء وتختم بالألف ,ولم يكن الحال بعيداً عند عنترة ,يداه ترتعشان مع كل حرف تهم عبلة بنطقه ,يتصبب
عرقاً كأن الشمس خلقت لتصلى جبينه الأسود. طلبت منَّا عبلة أن نمتدحها بشعر يكون على وزن واحد ورويٍّ
واحد وما هي إلا ثوان معدودة إذ بعنترة يقول:
أَتاني طَيفُ عَبلَةَ في المَنامِ = فَقَبَّلَني ثَلاثاً في اللَثامِ
وَوَدَّعَني فَأَودَعَني لَهيباً = أُسَتِّرُهُ وَيَشعُلُ في عِظامي
وَلَولا أَنَّني أَخلو بِنَفسي = وَأُطفِئُ بِالدُموعِ جَوى غَرامي
لَمُتُ أَسىً وَكَم أَشكو لِأَنّي = أَغارُ عَلَيكِ يا بَدرَ التَمامِ
- وقفت محتاراً أهيم على وجهي حتى تذكرتُ أبيات لعمر بن أبي ربيعة وتذكرت كذلك أنه شاعرٌ ولد بعد موت
عنترة بزمن بعيد , فالجاهلية لا يعرفونه ولا يعرفون شعره فأنشدت:
فَلَمّا أَن بَدا لِلعَينِ مِنها = أَسيلُ الخَدِّ في خَلقٍ عَميمِ
وَعَينا جُؤذَرٍ خَرِقٍ وَثَغرٌ = كَمِثلِ الأُقحُوانِ وَجيدُ ريمِ
حَنا أَترابُها دوني عَلَيها = حُنوَّ العائِداتِ عَلى سَقيمِ
عَقائِلُ لَم يَعِشنَ بِعَيشِ بُؤسٍ = وَلَكِن بِاِلغَضارَةِ وَالنَعيمِ
- وقف عنترة مذهولاً ينظر إليَّ نظر المغشي عليه من المس ,وكأنما الموت يأتيه من كل جانبٍ وما هو بميت
ولم تخفي عبلة إعجابها بتلك الأبيات التي قد اقتبستها دون علمهما من عمر بن أبي ربيعة , تولَّت عبلة بعد أن
أثنت عليّ ثناء من لا يجزه العطاء , وقد وعدتني بلقاء قريب تجود علي وأجود عليها , وعنترة يسنُّ أضراسه
فأدركت أن السيف الذي أخطأني في الأولى ,لا محالة صائبي , وبينما نحن كذلك إذ سمعنا منادياً يصيح أغارت
علينا ذبيان!! , أغارت علينا ذبيان!!.
- عاودت أمواج الغبار تلاطمها من جديد , وعاد ذلك الليل الذي كنتُ أحسبه فارقني مفارقة الأحياء للأموات
وعادت السيوف تقبِّل بعضها بعضاً , وعاد الرعد الهادر مراودة تلك القطرة البائسة!!.
تمت بحمد الله ..
===========
بقلم / ياسر البهيجان.
تحيتي لكم ...