ومسح خاص: وهو المسح المتعدي بنفسه، كقولك: مسحت رجلي، كما في هذا الوجه، وهذا لا يستفاد منه معنى الإلصاق المستفاد من المسح الخاص، فيصير، على هذا الوجه، من باب: المجمل الذي بينته السنة، يؤيد ذلك أن المسح في هذا التقدير: مقيد بالكعبين، والمسح الخاص، كما تقدم، لا يكون إلا على ظهور القدمين، كالمسح على الخفين، فلا يوجد من يتحرى فيه المسح حتى يصل إلى العظم الناتئ في كل رجل، خلاف الغسل الذي يشملهما، وإلى ذلك أشار الزمخشري، عفا الله عنه، في كشافه فقال: "وقيل: {إِلَى الكعبين} فجيء بالغاية إماطة لظنّ ظانّ يحسبها ممسوحة، لأن المسح لم تضرب له غاية في الشريعة.
وعن علي رضي الله عنه: أنه أشرف على فتية من قريش فرأى في وضوئهم تجوزاً، فقال: ويل للأعقاب من النار، فلما سمعوا جعلوا يغسلونها غسلاً ويدلكونها دلكاً". اهـ
والشاهد قوله: "لأن المسح لم تضرب له غاية في الشريعة".
والعدول عن الغسل إلى المسح في هذا الوجه، أفاد معنى لطيف، وهو: التنبيه على عدم الإسراف في صب الماء على الرجل لأن غسلها مظنة الإسراف، وإلى ذلك أشار:
ابن تيمية، رحمه الله، بقوله: (وفي ذكر المسح على الرجلين تنبيه على قلة الصب في الرجل فإن السرف يعتاد فيهما كثيرا). اهـ
"منهاج السنة"، (4/ 174).
والزمخشري، عفا الله عنه، بقوله: (الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة تغسل بصب الماء عليها، فكانت مظنة للإسراف المذموم المنهي عنه، فعطفت على الثالث الممسوح لا لتمسح، ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صبّ الماء عليها)، وهذا التوجيه أحد توجيهات قراءة الجر الآتية إن شاء الله.
والعرب تطلق "المسح" على الغسل، فالمسح عندهم مشترك بين المسح والغسل، وفي هذا يقول القرطبي رحمه الله:
"قال الهروي: أخبرنا الأزهري أبو بكر محمد بن عثمان بن سعيد الداري، عن أبي حاتم عن أبي زيد الأنصاري، قال: المسح في كلام العرب غسل، ويكون مسحا، ومنه يقال: الرجل إذا توضأ فغسل أعضاءه فقد تمسح، ويقال: مسح الله ما بك إذا غسلك وطهرك من الذنوب". اهـ
نقلا عن "الإشارات النافعات على شرح منتهى الإرادات"، (1/ 141).
ويقول ابن هشام رحمه الله: "قال أبو علي: حكى لنا من لا يتهم أن أبا زيد قال: المسح: خفيف الغسل، يقال: مسحت للصلاة، وخصت الرجلان من بين سائر المغسولات باسم المسح ليقتصد في صب الماء عليهما، إذ كانت مظنة للإسراف". اهـ
"شرح شذور الذهب"، ص349.
أو محمولة على تقدير عامل محذوف من غير جنس المذكور، فيكون تقدير الكلام: فامسحوا برؤوسكم واغسلوا أرجلكم، ويكون التقدير في الأبيات المذكورة في الوجه السابق، من غير جنس الفعل المذكور ففي:
علفتها تبنا وماء باردا ******* حتى غدت همالة عيناها.
يكون التقدير: علفتها تبنا وسقيتها ماء
وفي:
ورأيت زوجك في الوغى ******* متقلدا سبفا ورمحا
أي: متقلدا سيفا ومعتقلا رمحا.
وفي:
إذا ما الغانيات برزن يوما ******* وزججن الحواجب والعيونا
أي: وزججن الحواجب وكحلن العيونا.
وأما قراءة الجر فلها وجهان:
العطف على المجاورة، إذ جاور المنصوب "أرجلكم" مجرورا: "رؤوسكم"، فأخذ حكمه، كما في قول الشاعر:
يا صاح بلغ ذوي الزوجات كلهم ******* أن ليس وصل إذا انحلت عرى الذنب
بجر "كلهم" لمجاورته المضاف إليه المجرور: "الزوجات"، مع أنه توكيد للمنصوب "ذوي".
ومنه حديث وصف النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس بجعد قطط، ولا سبط، رجل"، بجر "رجل" لمجاورته المجرور "سبط"، والقياس: رفعه على الاستئناف: أي: هو رجل، أي: متسرح. وقد ضعف ابن هشام، رحمه الله، في "شرح الشذور" هذا الوجه، لأنه حمل على وجه شاذ، فينبغي صون القرآن عنه.
أو على العطف الصريح على "رؤوسكم" المجرورة، فيكون المراد: المسح على الخفين، وجعل ذلك مسحا للرجل مجازا، عند من يقول به، إذ أطلق المحل وأراد الحال فيه، وإنما حقيقته أنه مسح للخف الذي على الرجل، والسنة بينت ذلك.
بتصرف من "شرح شذور الذهب"، ص349.
وعند النظر للأقوال السابقة، يتضح أن مذهب جمهور أهل السنة، ما عدا الحسن وابن جرير رحمهما الله اللذين جوزا المسح أو الغسل والظاهرية رحمهم الله الذين أوجبوا الأمرين أخذا بظاهر النص كعادتهم لأن كلا القراءتين متواتر، مذهب جمهور أهل السنة، هو الذي يجمع خير هذه الأقوال:
فهو يوجب الغسل، أخذا بقراءة النصب، فيجمع بين نصوص الوحيين: القرآن والسنة.
ويجوز المسح على الخفين، أخذا بقراءة الجر.
وينبه على عدم الإسراف في الوضوء إذا حمل المسح على الغسل الخفيف.
والله أعلى وأعلم.
ـ[أبو أسيد]ــــــــ[20 - 05 - 2007, 08:13 م]ـ
بوركت أخانا مهاجر وحفظك الله وسدد خطاك فقد أجدت
ـ[ابو الفوارس]ــــــــ[04 - 06 - 2007, 06:36 ص]ـ
بارك الله فيك أخي مهاجر