ووجه الجمع في ذلك أن القرآن بالغ من وضوح الأدلة وظهور المعجزة ما ينفي تطرق أي ريب إليه , وريب الكفار فيه إنما هو لعمى بصائرهم , كما بينه بقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} فصرح بأن من لا يعلم أنه الحق أن ذلك إنما جاءه من قِبل عَماه ومعلوم أن عدم رؤية الأعمى للشمس لا ينافي كونها لا ريب فيها لظهورها:
إذا لم يكن للمرء عين صحيحة ******** فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر
وأجاب بعض العلماء بأن قوله: (لا ريب فيه): خبر أريد به الإنشاء أي: لا ترتابوا فيه وعليه فلا إشكال". اهـ
ومثله:
قوله تعالى: (لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ): فهو على أحد الأوجه: خبر أريد به الأمر بعدم تغيير خلق الله، عز وجل، وهو معنى تشهد له نصوص كثيرة كـ:
قوله تعالى: (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا)، والآية قد وردت في سياق الذم فاستفيد منه: النهي عن تغيير خلق الله.
وحديث عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، مرفوعا: (نَهَى عَنْ النَّامِصَةِ وَالْوَاشِرَةِ وَالْوَاصِلَةِ وَالْوَاشِمَةِ إِلَّا مِنْ دَاءٍ)، والحديث عند أحمد، رحمه الله، في مسنده.
فالنهي عن هذه الخصال إنما ورد لما فيها من معنى تغيير خلق الله عز وجل.
ومنه أيضا:
قوله تعالى: (لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ)، فإن الكلمات إما أن تكون:
كونية: لا يملك أحدا تبديلها، فهي قضاء الله، عز وجل، الكوني الذي لا راد له، فيكون الخبر على أصله.
وإما أن تكون شرعية: فيكون خبرا أريد به الأمر، فالمعنى: لا تبدلوا كلمات الله، عز وجل، الشرعية، من خبر وإنشاء، فهي الصدق في الأخبار والعدل في الأحكام، وتحريفها: كذب وظلم.
ومنه أيضا:
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
فالخبر: "تؤمنون" أريد به الأمر: "آمنوا"، بدليل جزم المضارع: "يغفر"، في جوابه، فيؤول الكلام إلى: آمنوا بالله يغفر لكم ذنوبكم، على نصب الفعل: "يغفر" في جواب الأمر بشرط مقدر بـ: آمنوا بالله، إن تؤمنوا بالله يغفر لكم ذنوبكم، والشرط يدل بمنطوقه ومفهومه، كما قرر الأصوليون، فيكون المعنى: إن تؤمنوا بالله يغفر لكم، وإن لا تؤمنوا لا يغفر لكم.
وإلى ذلك أشار ابن هشام، رحمه الله، بقوله: "وكذلك قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)، فجزم: "يغفر" لأنه جواب قوله تعالى: (تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ)، لكونه في معنى: آمنوا وجاهدوا، وليس جوابا للاستفهام، لأن غفران الذنوب لا يتسبب عن نفس الدلالة، بل عن الإيمان والجهاد". اهـ
"شرح قطر الندى"، ص93.
ولو كانت مجرد الدلالة المستفادة من الاستفهام كافية لحصول المغفرة، لحصلت النجاة لكل من قرأ الآيات وعلم معانيها وإن لم يعمل بها، ولا قائل بذلك.
ومنه أيضا:
¥