تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وتأمل ما جرى في البلقان في أواخر القرن الماضي من سفك لدماء المخالفين عموما والموحدين خصوصا، إذ لم يفلح التعابش السلمي المزعوم بين أمم البلقان المتباينة العقائد والمشارب، لم يفلح في استصال مادة التعصب من قلوب الصرب والكروات، فاندفعا اندفاع الكلاب المسعورة في جسد الكيان الإسلامي الوليد في تلك الأصقاع فكان ما كان برسم الانتصار للأديان، إذ هي كما تقدم الجامعة للقلوب، وعلى باطل، فلم تفلح جمهورية تيتو الشيوعية إلا في جمع الأبدان مع ما في القلوب من تنافر، فلما سقطت جمهوريته وانفل السيف القاهر لتلك الأمم ظهر التنافر المكنون في الصدور لينتصر أولئك لدينهم من دين الموحدين في تبجح صريح يسقط كل نظريات التخريب للملل والنحل بزعم إمكان التقريب بينها فالملل كلها تنتسب إلى دين الخليل عليه السلام، والنحل كلها تنتسب إلى دين الإسلام، وذلك زعم لا مستند له في عالم الشهادة إذ دين إبراهيم، عليه السلام، واحد وتلك أديان وملل شتى، وطريقة الإسلام واحدة وتلك طرائق شتى.

وكلّ يدّعي وصلا بليلى ******* وليلى لا تقرّ لهم بذاكا

وداخل دائرة الإسلام تأمل ما وقع لأحمد، رحمه الله، من ظلم وعسف بسيف السلطان الذي انتحل مقالة فحمل الأمة عليها بحد سيفه القاهر، وتأمل ما جرى وما يجري لفئام من أهل السنة، لا سيما في العراق، من ظلم أهل البدعة الذين انتحلوا مقالة غالية مستندها الجهل والتعصب فوالوا وعادوا عليها، وولغوا في دماء وأعراض مخالفيهم فاستحلوا منهم ما لم يستحلوا من الكفار الأصليين.

وأما أهل السنة فلسان مقال مخالفهم، كما حكى ابن تيمية، رحمه الله، في "منهاج السنة": "يا أهل السنة أنتم فيكم فتوة لو قدرنا عليكم لما عاملناكم بما تعاملونا به عند القدرة علينا".

وهذا أمر ثابت لأهل الإسلام في مقابل بقية الملل، ثبوته لأهل السنة في مقابل بقية النحل، والتاريخ حكم عدل في مثل تلك المضائق.

فتأليف الأنبياء لقلوب الأتباع مستنده شرعي وجزاؤه أخروي، على حد قوله تعالى: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا).

وأما تأليف الملوك فإنه تأليف بالترغيب تارة، وبالترهيب تارة أخرى، فيجمع الأتباع بسلطان المال أو أي شهوة عارضة تأسر قلب مباشرها فهو لحظ نفسه منتصر، إن والى والى للدنيا، وإن عادى عادى عليها، فحبه وبغضه فيها، وانتصاره وانهزامه لنيل عرضها الزائل، فيستألف بولاية أو شفاعة، ويشترى ولاؤه بهبة أو عطية، فإن لم يجمع الأتباع بالترغيب جمعوا بالترهيب بسيف السلطان الجائر، كحال كثير من الطواغيت السابقين والمعاصرين، ممن أقاموا ممالكهم على الظلم فسقطت أو هي آيلة للسقوط ولما، وكثير منهم يمزج الترغيب بالترهيب، فلكل مقام مقال، وهو في جميع أحواله لا يصدر عن سياسة شرعية، وإنما يصدر عن سياسة ملوكية ليس لها من الإخلاص كبير حظ، بل ربما جردت منه، فصاحبها لا يهتم إلا لملكه، ولا يغضب إذا انتهك حمى ملك الملوك، جل وعلا، ويغضب بل وينتصر إذا انتهك حماه الأرضي.

والشاهد أن الفرقة الكونية فرع عن الفرقة الشرعية، فلا يكون تآلف ولا تخالف إلا على رسم الديانة، وإن وجد معها أمر دنيا تتطلع إلى تحصيله الهمم فهو نافلة بعد فريضة الانتصار للديانة، وحال كثير من أمصار المسلمين اليوم: أداء النافلة بل الحرص عليها والتفريط في الفريضة بل تضييعها، فليس لها من التصور الشرعي ما يستقيهم به أمرها الكوني، فلا الدنيا أثمرت ولا الآخرة عمرت.

فالمؤالفة على رسم الاعتصام بالوحي هي المؤالفة المعتبرة بخلاف:

المؤالفات المصطنعة ممن تزيوا بزي العلم وليسوا من أهله إلا على حد استظهار جملة من مسائل الدين تذرعا إلى تحصيل جملة من حظوظ الدنيا الفانية، فمؤالفتهم أهل الباطل والإسراع إلى نواديهم طمعا في رضاهم الذي لن يكون إلا بهجر الدين بالكلية مصداق قوله تعالى: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ)، تلك المؤالفة لن تنجيهم في الدنيا ولا في الآخرة إذ زوال من

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير